الخميس، 19 يوليو 2007

التطور البيولوجي

الكاتب: Lucifer
المصدر: موقع الذاكرة
الجزء الاول

ما هي الصعوبة مع نظرية التطور…؟يجد معظم من هو بعيد عن هذه النظرية ودراساتها مشكلة كبيرة في فهم التطور، السبب يعود ليس فقط لعدم قدرة علماء الأحياء على التواصل مع الرأي العام بسهولة بلغة بسيطة، وليس فقط بسبب تعقيد هذا المفهوم وتشابكه وتعلقه بالعديد من العلوم والمعطيات المختلفة، والخلط الكبير بين التطور، وآليات التطور… ولكن ايضا لكون هذه النظرية قد تقاطعت مع مفاهيم دينية متوارثة وراسخة، الامر الذي يجعلها تقف امام اعداء جدد مثل رجال الكنيسة ورجال الدين.

 واللوم يقع على التعاطي الايديولوجي او السئ من قبل افراد في قنوات الإعلام حيث جرى حجب، عن قصد أو دون قصد، حقائق عديدة عن التطور أو خلطها بطريقة غائية، ولأن التطور (وبسبب تعارضه مع فكرة الخلق) صار محل جدل كبير جدا في الاوساط الدينية القوية التأثير، ولم يبق هناك من لا يقدم نفسه على أنه (يعرف) ما هو التطور ويستطيع نقده.

ولهذا السبب فإن التطور (عكس العديد من النظريات العلمية الحديثة الاخرى، بما فيها نظرية النسبية) يلاقي معارضة كبيرة جدا. مثلاً عدد كبير من الشعب الأمريكي يعارض هذه النظرية رغم أن النخبة العلمية في تلك البلاد قد تبنت النظرية من عقود عديدة وصارت بالنسبة لها حقيقة لا جدل فيها. وأدى الجدل الإعلامي (مدفوعا بكثير من الأحيان من أطراف دينية) أدى إلى توسع هذه الهوة فرفض العديد من العلماء الجدل مع النقاد واعتبروا أنهم لا يقدمون نقداً علميا حقيقياً بل propaganda إعلامية دينية ليس من مهمة علماء الأحياء مقارعتها برأي الوسط العلمي. واليو اضطررت الكنيسة الكاثوليكية الى الاعتراف بصحة هذه النظرية، تحت تأثير المعطيات الحاسمة، الامر الذي يمهد للتخفيف من الجهود التي تبذل لاقناع العامة بها. وهنا جملة الاخطاء الشائعة حول نظرية التطور الحديثة:




أمثلة على الاستيعاب الخاطئ لمفاهيم التطور.
الخطأ: نظرية التطور انهارت وتركها العلماء.
الصواب: حدوث التطور لم يعد مجالاً للنقاش في الوسط العلمي، النقاش يتم حول آليات التطور فقط. هناك فرق كبير بين حدوث التطور وآليات حدوثه. كما أن علماء التاريخ عرفوا أن المصريين (وليس الفينيقيين) بنو الأهرامات قبل أن يكتشفوا الطريقة التي بنيت بها. وعدم معرفة طريقة بناء الأهرامات من قبل لا يدل على أن الأهرامات لم يبنيها المصريون.

الخطأ: التطور مجرد نظرية غير مثبتة.
الصواب: المشكلة في فهم كلمة نظرية والخلط بينها وبين (فرضية) . الفرضية بمنتهى البساطة – هي أي شيء يتم فرضه لتفسير ظاهره ما، بناء على بعض المشاهدات المبدئية. وعلى هذا الأساس فالفرضية ليست صحيحة ولا خاطئة بل هي مطروحة للنقاش حتى يتم تأكيدها أو نفيها. والتطور بات غير مطروحا للنقاش في الأوساط العلمية. أي علم من العلوم يبدأ كفرضية ثم يتم إثباته فيتحول بالتبعية إلى "نظرية".

الخطأ: القول أن الإنسان أصله قرد. أو أن الإنسان تطور من شكل من أشكال القردة.
الصواب: أن الإنسان والقرد من أصل مشترك... في الواقع فإن البشر والقردة مجموعتان من أجداد مشتركة انفصلتا وتكيفتا مع بيئتهما. والقردة الحالية هي أشكال متطورة كما هم البشر، الأصل نوع واحد منقرض حالياً، لكن البشر وبسبب أنانيتهم وتعصبهم لجنسهم – هذا هو السبب الرئيسي.. الفكرة الدينية في الخلق وآدم وحواء هي فقط أحد أعراض هذه الأنانية (المبررة طبعاً بسبب الرقي الدماغي والعقلي للبشر) ينفون هذه الفكرة... علم التطور يظهر أن أقرب الكائنات إلينا هم قردة الشمبانزي.. تأتي في المرتبة الثانية في القرابة (الغوريلا).

الخطأ: التطور يفسر نشأة الحياة على الأرض والخلية الأولى من المادة الغير حية وهو مرتبط بالصدفة.
الصواب: التطور يفسر التنوع الحيوي للكائنات الحية. تفسير نشأة الحياة العلمي وموضوع الصدفة بحث آخر وعلم آخر يدعى علم نشأة الحياة (biogenesis) (ولو أنه مرتبط بالتطور).

الخطأ: الاعتقاد أن التطور يعني أن نجد اختلافا في الصفات الحيوية بشكل مباشر بين جيلين متلاحقين فقط (كأن نعتقد أن حيوانا زاحفا قد يولد بأجنحة, أو أن ضفدعا قد يلد سمكة.. الخ)
الصواب: التطور عملية تحدث بشكل معقد ومتنوع وعلى مدار ملايين السنين لكننا في حياتنا اليومية نتعامل مع أحداث (سريعة نسبية) تجعلنا نخطئ عندما تختلف الأزمنة لذا فنحن مضطرون للتعامل مع تلك الأحداث بشكل علمي لا مجرد منطق يومي. ولا يمكن تطبيق آليات التطور على أحداث سريعة متجاهلين الزمن الطويل جدا التي جرت خلاله.

الخطأ: تطور الحياة منشأه الصدفة
الصواب: الصدفة مجرد عامل في بعض آليات التطور، والتطفر العشوائي هو مصدر التنوع الجيني الكبير ، ثم إن الإنتقاء الطبيعي والذي هو أهم أجزاء التطور ليس حدثا عشوائيا أبداً.

الخطأ: التطور يقدم للأحياء ما تحتاجه لكي تستمر
الصواب: الانتخاب الطبيعي آلية لا تأبه لحاجة الكائن الحي بل للتطفر والتغير الجيني في مورثاته (والتي تحدث كخطأ في النسخ الجيني ..الخ). وتفاعلها مع البيئة.

الخطأ: التطور فاشل لأن نظرية دارون ناقصة ولم تفسر العديد من الظواهر الحيوية.
الصواب: المشكلة أن العامة ومعارضي التطور بشكل خاص أمسكوا بنظرية دارون واعتبروها الحقيقة المطلقة في التطور. فإن وجدوا نقصاً بها ألقوا بفكرة التطور كلها في الهواء.. طبعا هذه الطريقة الخاطئة في التفكير لم يعتمدونها في باقي النظريات العلمية لأن لا علاقة لها بشكل مباشر بمسلماتهم الدينية. لم نسمع أحداً يقول (نظرية نيوتن كانت بلا فائدة بسبب نقصها) بل يقول الكل ، (نظرية نيوتن خطوة هامة دفعت البشرية خطوة نحو الارتقاء العلمي). لم نسمع أحدا يقول (علوم الخوارزمي فشلت تماما لأنها لم تشمل كل أشكال الخوارزميات التي وصلت إليها الخوارزميات في عصرنا الحاضر)- بل يقولون الخوارزمي هو مؤسس علم الخوارزميات ونيوتن هو مؤسس علم الجاذبية... والأسس هي خطوة البداية. لكنهم بدلا من أن يقولوا أن دارون هو مؤسس علم التطور فإنهم يقولون (دارون لم يفسر كل شيء، لذا فإن كل ما بني على نظريته فاشل تماماً). إن أردنا التعامل بمنطقهم لسقطت كل العلوم البشرية التي نملكها الآن لأن مؤسسيها لم يقدموا النسخة النهائية عنها.
التطور أو ما يدعى بالدارونية الحديثة New Darwinism هي النسخة المطورة المثبتة عن نظرية دارون كما أن النسبية التي قدمها اينشتين هي نسخة مطورة عن جاذبية نيوتن، وكما أن مبادئ برامج الكمبيوتر ومبادئ عملها وتسلسلها المنطقي هو نسخة مطورة عن الخوارزميات. اكبر الأخطاء هو النظر إلى نظرية دارون كغاية ونهاية لا وسيلة وبداية لفهم التطور.

الخطأ: النظرية فاشلة لأن هناك أنواعا لم تستطع آليات التطور تفسيرها بعد.
الصواب: عندما أجد جثة إنسان تنقصا يد لا استطيع إنكار أن ما وجدته هو جثة إنسان، بل أقول (هذه جثة إنسان ناقصة وعلي أن أبحث عن اليد التي تنقصها). التطور فسر 90 بالمئة من أشكال الحياة على الأرض، والنسبة والبحوث في ازدياد. والعثور على أحافير وأدلة تكمل الحلقات الناقصة مسألة وقت. لا يمكنني افتراض أن الحلقات ليست موجودة بسبب عدم العثور على الجزء الناقص بها بعد. هذا نسف للبحث العلمي والمعرفي لا نجده في باقي العلوم - إلا في نظرية التطور.

الخطأ: العديد من علماء الأحياء لا يؤمنون الآن بنظرية التطور.
الصواب: بصراحة لا أملك إلا أن اضحك أمام هذه الكذبة الصريحة التي تروج لها الجهات الدينية المسيحية واليهودية في الغرب، والإسلامية في بلاد المسلمين. وهنا سأترك للقارئ التقصي عن هذا الأمر بنفسه.
الخطأ: التطور هو تقدم... والأحياء البدائية تطورت إلى أشكال حياة متقدمة، وتطورت من الكائنات الوحيدة الخلية إلى أكثر الكائنات تعقيدا.
الصواب: كلام خاطئ جدا ويؤدي إلى فهم خاطئ جدا عن التطور، كل نوع من الأنواع هو شكل متغير وجديد من آبائه، كل نوع تكيف مع بيئته فقط، التطور أفضل ما يمكن وصفه أنه شجرة، أجداد الحوت الآن ليسوا موجودين على الأرض، الحوت شكل مختلف عن أجداده، وأجداد البشر الآن (وهم أجداد القردة) ليسوا موجودين الآن، بل البشر والقردة أشكال متطورة عن أجدادها، لا يوجد شكل من أشكال الحياة الآن يمكن أن ندعوه (شكل أدنى) أو (شكل أرقى) كل شكل متكيف مع بيئته تماماً.

وسأذكر الأخطاء الأخرى في سياق الموضوع.


تعريف التطور
عند الإشارة إلى التطور يجب أن يكون في ذهننا تعريف واضح له مفهوم ومدرك, ما الذي يعنيه علماء الأحياء بقولهم أن البشر والقردة من أصل واحد؟
المشكلة في كلمة تطور evolution صراحة، هذه الكلمة تعطي في الذهن صورة خاطئة عن هذا المفهوم العلمي حقيقة... التطور لا يعني دوما الرقي في الكائن الحي علميا، وهذا الفرق بين التفسير اللغوي والعلمي للتطور أحد أسباب وضع التطور في جدل كبير جداً.

عرف التطور العديد من العلماء. أحد أهم علماء البيولوجيا (دوغلاس. ج. فوتويما) قال في تعريفه للتطور:

(( في المفهوم العام للتطور فإن (التطور) هو (تغير) ليس إلا. وكل شيء في هذا الكون خاضع للتطور (التغير) بدون أي استثناء، المجرات والنجوم، لغة البشر، الأنظمة السياسية... كلها تتطور بشكل أو بآخر ولا شيء ثابت في هذا الكون. والتطور البيولوجي تعريفاً هو التغير في خصائص الجماعات الحاصل حتما في فترة تفوق فترة حياة أحد أعضاء تلك الجماعة. والتغيرات في خصائص أفراد الجماعات بمعزل عن مجموعاتها لا تعتبر تطوراً لأن المنظمات الحيوية الفردية لا تتطور بمعزل عن جماعاتها. إن التغيرات التي تعتبر تطورا هي التغيرات التي يتم توريثها من أجيال سابقة عن طريق المادة الجينية حتماً. والتطور البيولوجي قد يكون طفيفا أو أساسياً، فهو يشمل التغييرات الجينات التي تحدد زمرة الدم في الجماعة الواحدة ويشمل أيضا التغييرات التي أدت إلى نشوء أحياء معقدة كالحلزون والنحل والزرافات من كائنات عضوية أكثر بدائية)).

من المهم ملاحظة أن التطور هو التغير الجيني الذي يتم توريثه ونشره عبر الأجيال وهو لا يحصل على مستوى فردي بل في الجماعات.

وكل التعريفات العلمية الأخرى للتطور هي تماما بمحتوى التعريف السابق. عندما يقول العلماء أنهم راقبوا التطور فهم يعنون أنهم التقطوا التغييرات الحاصلة على تكرار وتنوع الجينات في الجماعة. عندما يقول العلماء أن البشر والقرود من أصل واحد فهم يقولون بشكل آخر أن هناك صفات وراثية مختلفة ظهرت في مجموعتين منفصلتين تم تميزها في كل مجموعة على حدة بسبب انفصال المجموعتين عن بعضهما أدت إلى نشوء البشر والقردة.

لكن وللأسف ظهرت تعريفات عامة للتطور غير علمية وخارج المجتمع العلمي البيولوجي وشاعت بين الناس، وتم تداولها واستغلالها على أنها تعريفات للتطور بل وتم تثبيتها في مراجع أيضاً سأورد أمثلة عنها.
مثلا نقرأ في قاموس أكسفورد المختصر العلمي تعريف التطور
(العملية التي حدثت بشكل تدريجي والتي ظهر بسببها التنوع الكبير في أشكال الحياة النباتي والحيوانية من أصول قديمة أكثر بدائية خلال الثلاثمئة مليون عاماً الماضية.)
هناك عدة مشاكل في هذا التعريف، فهو يستثني أشكال حياة عديدة بتحديده (الحيوانية والنباتية) تاركا أشكال عديدة للحياة كالفطريات والأحياء الوحيدة الخلية، أيضا هو يحدد العملية بكونها تدريجية (وهذا ليس دائما ما يحصل)، أيضا يبدو هذا التعريف وكأنه يتحدث عن تاريخ التطور بدلا من التطور نفسه. أكبر خطأ هو وصف التطور بأنه ارتقاء من أشكال بدائية إلى أشكال معقدة بدلاً من وصفه الصحيح (التغير) لأن زيادة التعقيد أحد نتائج التطور وليس تعريف التطور وهو يفتح بابا كبيرا للجدل الخاطئ على المستوى العرقي مثلا، هل يعني هذا التعريف أن ارتفاع أطوال بشر العرق الأبيض دليلا على تطورهم وارتقائهم عن سائر البشر؟
(المضحك في الأمر أن البعض قام بتبني التعريف الخاطئ للدارونية ليتهمها بالعنصرية – البعض الآخر قال أنها يهودية واليهود يعتبرون أنفسهم أكثر البشر تطوراً... رغم أن مفهوم التطور الحقيقي ينفي صفة العنضرية لا يؤيده).

ما تم ذكره مثال عن قاموس يفترض أنه يهتم بالمصطلحات العلمية.. سائر القواميس تملك تعاريف أسوأ بكثير. مثلاً نقرأ في قاموس ويبستر الشهير...(( التطور هو ارتقاء الأنواع أو المنظمات الحيوية أو العضوية من أشكال بدائية إلى أشكالها الحالية)).

وعندما ينكر أحد ما التطور فذلك يرجع لسوء الطريقة التي يقدم بها الإعلام أو الكتب الغير مختصة التي تشرح التطور، لو كانت الطريقة والشرح صحيحان فإن إنكار التطور وحدوثه سيبدو سخيفا كإنكار وجود الجاذبية تماماً.
طبعا فإن جزءاً من اللوم يقع على علماء البيولوجيا أنفسهم... فهم مقصرون (باعتراف العديد منهم) في شرح التطور على النطاق العام بشكل صحيح بسبب عدم سهولة المفهوم وتعقيده.


مصطلحات ومبادئ
الحمض الريبي النووي المنقوص الأوكسجين (DNA - Deoxyribonucleic acid).

الحمض الريبي النووي هو حمض موجود في نواة الخلية يحوي الخطوات الجينية الخاصة بالتحول البيولوجي (الحيوي) للشكل الخلوي لأي كائن حي أو فيروس (والفيروس لم يتم تصنيفه ككائن حي تماما). هذا الحمض يحوي على معلومات وراثية مشفرة تدعى جينات. هذه المعلومات مسؤولة عن نقل صفات الكائن الحي بأكملها بدءا من لون الشعر وانتهاءاً بالأمراض الوراثية.
يتكون الـDNA من النيوكليوتيدات Nucleotides. هي وحدات بنائه الأساسية وهي اربعة: adenine (A), thymine (T), cytosine (C), and guanine (G). Uracil (U)
تتابع هذه النيوكليوتيدات يعطي الشفرات الوراثية المسؤولة عن نقل صفات الكائن الوراثية. هذه النيوكليوتيدات معرضة للطفرات بشكل دائم مما يعطي صفات جديدة دائما تتم إضافتها إلى الحوض الجيني الخاصة بنوع الكائن.

الشكل أعلاه يمثل شريط DNA مكون من الحموض النووية التي تحمل ترتيبا مشفراً.

الحمض الريبي النووي (RNA - Ribonucleic acid)
وهو المسؤول عن نقل المعلومات الوراثية من الـ DNA وتحويلها إلى بروتين (ترجمة شيفرة الـ DNA إلى بروتينات).


الشكل الى اليمين يمثل شريط DNA منقسم (باللون الرمادي والأصفر) وكيفية تجمع الحموض الريبية للـ RNA (باللون الرمادي والأحمر) حسب شيفرة الـ DNA... بعد تشكل شريط الـ RNA الأحمر يتحول إلى بروتين. وحسب الترتيب الموجود في الـ DNA فإن تجمع وحدات الـ RNA تعطي بروتينات مختلفة. هذه البروتينات هي وحدات البناء الأساسية للكائنات الحية.
خلال انقسام الخلايا تتم مضاعفة الـ DNA لأجل الحفاظ على بقائه في كل خلية من خلايا الكائن الحي عن طريق فك شريط الـ DNA ومقابلته مع بروتينات لكل طرف تعطي الجزء الثاني منه . وعند التكاثر فإن هذا الحمض ينقل الصفات الوراثية عبر أجيال الكائن الحي.

الشكل الاخير يرينا كيف تتضاعف الـ DNA عند انقسام الخلية. كل مجموعة من تلك الحموض تعطي صفة وراثية محددة حسبب تتابعها . يمكن أن يشكل تتابع هذه الشيفرات الصفة الوراثية لون العين أو طول الجسم أو تحدد وظيفة كإنتاج الأنسولين أو إفراز حموضة المعدية.. الخ...

يوجد الـ DNA في تجمعات تدعى الـكروموزومات chromosomes لدى البشر 64 كروموزوماً في كل خلية لا جنسية تحوي جميع الصفات الوراثية للإنسان ونصف العدد (23) في الخلايا الجنسية (النطاف والبيوض).
عند اتحاد الخلايا الجنسية الذكرية والأنثوية تجتمع 23 كروموزوماً من كل منهما لتشكل البيضة الملقحة التي تحوي صفات وراثية من الأب والأم. تبدأ البيضة بالانقسام ومضاعفة الـ DNA الموجود فيها لتعطي الكائن الذي يحمل صفات وراثية من الأب والأم.
الشيفرة الوراثية هي التي تحدد تمايز الخلايا ووظائفها في الكائن الحي عن طريق ترجمة هذه الشيفرة إلى بروتينات عديدة، فخلايا العين تختلف في الوظيفة عن خلايا الدماغ وهي حساسة للضوء بسبب بنيتها ووظيفتها التي أعطتها إياها الشيفرة الوراثية وخلايا الدماغ تنتج النواقل العصبية لأن الشيفرة الوراثية أعطتها هذه المهمة .. كل خلية من خلايا الكائن تحوي جميع المعلومات الوراثية التي تحدد لكل خلية مهمتها ووظيفتها.





الجزء الثاني

الطفراتالتطفر هو التغيير في الشيفرات الوراثية في حمض الـ DNA لأسباب عديدة. هذا التغير هو السبب الأهم في التطور، وهو وبمساعدة آليات التطور الأخرى يؤدي إلى التغيرات في الكائنات الحية... وكل الآليات التي يعمل بها التطور تقوم بتغيير نسب المورثات فقط لكنها ليست السبب في نشوء معلومات وراثية جديدة. الطفرات هي المسؤولة عن نشوء المعلومات الوراثية الجديدة.
خلال النسخ الجيني للـ DNA فإن الشيفرات تخضع لاحتمالات خطأ في النسخ أو القص أو الترتيب للحموض مرات عديدة ورغم أن الخلية الحية تحوي آليات عديدة وقوية (أنزيمات التصحيح) لتصحيح الأخطاء إلا أن بعض الأخطاء تفلت من آليات التصحيح وتنتج طفرات وراثية تؤثر في الصفات الوراثية لأي كائن. بعض الطفرات لا يؤثر على حياة الكائن وبعضها قاتل وبعضها مفيد يقدم صفات مساعدة في استمرار المجموعة.

كل الأحياء على الأرض تستخدم الـ DNA كناقل لمادتها الوراثية (عدا بعض أنواع الفيروسات فهي تملك فقط RNA).
الـ DNA مكون يتألف من سلاسل من النيوكليوتيدات، هناك أربع أنواع لها adenine (A), guanine (G), cytosine (C) and thymine (T). ... تلك التسلسلات من النيوكليوتيدات هي شيفرات لتكوين البروتينات. والجين هو مجموعة من تلك النيوكليوتيدات، كل ثلاث من تلك النيوكليوتيدات تشكل حمضاً أمينياً أو ما يدعى بالكودون (Codon) - (وحدة بناء البروتين).
هذا التشفير الثلاثي لكل حمض أميني (كودون) نفسه لجميع الأحياء هناك 64 تشكيلة ثلاثية من ضمنها 20 تشكيلة فعالة تعطي حموضا أمينية، وفي معظم الأحوال فإن أول نيوكليوتيدان فقط هما اللذان يحددان نوع الحمض الأميني
وعندما تستخدم الخلية الجين فإنها تقوم بترجمته إلى RNA (الـ RNA مشايه للـ DNA إلا أنه يحوي النيوكليوتيد (U) بدلاً من (T)... وعندما تتم ترجمة الـ RNA من الجين ندعوه (RNA الرسول) ويتم ترجمته فيما بعد إلى سلسلة من الحموض الأمينية (بروتين) عن طريق آلية في الخلية تدعى (الريبوزومات).
بعض البروتينات تعمل كأنزيمات لتسريع التفاعلات الكيميائية في الخلية ، بعضها الآخر وحدات بناء أو تنظيم نمو.. الخ.
ترتيب الجينات في الأنواع المتقاربة من الأحياء متشابه جداً. نجد أيضاً أن تركيب الحمض الأميني نفسه تقريبا في الأنواع المتقاربة (رغم وجود بعض الفروقات في الخانة الثالثة)
نقسم خلايا الكائنات الحية من حيث التركيب الداخلي إلى قسمين هي خلايا متميزة النواة(Eukaryote ) (لها نواة في داخلها توجد فيها المادة الوراثية) وخلايا غير متميزة النواة (Prokaryote ) (لا تملك نواة والمادة الوراثية تسبح في الخلية حرة). يشمل القسم الأول خلايا بعض الأحياء وحيدة الخلية مثل فطر الخميرة والأحياء متعددة الخلايا مثل الإنسان والنبات؛ أما القسم الثاني فالمثال عليه هو البكتيريا).
تتميز الخلايا المتمايزة النواة بكونها بوجود سلاسل جينية لا تؤثر في تركيب البروتينات، فمادتها الوراثية مليئة "بجينات ميتة" أو كما تدعى (pseudogenes – جينات زائفة). هذه الجينات الزائفة هي نسخ من جينات فعالة قامت الطفرات بتعطيلها. معظمها لا ينتج بروتينات كاملة، فقد يتم فك تشفيرها لكن لا تترجم إلى بروتينات، وقد تتم حتى ترجمتها إلى بروتينات لكن تلك البروتينات منقوصة. وهذا السبب بالذات يجعلها معرضة للتطور بشكل كبير لأن ومهما تطفرت فلن تؤثر في أداء الكائن وبالتالي لن تصطدم بآلية حذف من آليات التطور.
أيضاً في الجينات هناك ما يدعى بالإنترونات (Introns).. وهي أجزاء يتم حذفها من سلاسل الـ RNA بعد فك التشفير. فهي لا تدخل في تركيب البروتينات أيضاً ووظيفتها تنحصر في تنظيم وترتيب الجينات. وهي أيضاً معرضة للتطور بشكل سريع لعدم تحولها إلى بروتينات وبالتالي عدم اصطدامها أيضا مع آليات الحذف. سنأتي على شرح آليات الحذف لاحقاً

أسباب حدوث الطفرات عديدة منها نذكر
- أخطاء نسخ أثناء انقسام الخلايا
- التعرض للإشعاعات
- المواد الكيميائية
- العدوى بالفيروسات

والطفرات تكون بحالات عديدة أهمها ببساطة
- طفرات الحذف (يتم فقدان جزء متسلسل من الحموض النووية DNA)
- طفرات الإضافة (تتم إضافة جزء من الحموض النووية أثناء مضاعفة الـ DNA)
- طفرات إختلال الترتيب (وفيها يتغير ترتيب الحموض النووية على شريط الـ DNA)

أما تصنيف الطفرات الوظيفي (وهو الأهم في موضوعنا فهو كما يلي):

- طفرات الخسارة الوظيفية: وهي طفرات تؤدي لخسارة الكائن الحي لوظيفة حيوية ما. (طفرات الحذف).
- طفرات الزيادة الوظيفية: وهي طفرات تؤدي إلى ظهور وظائف جديدة للكائن لم تكن موجودة مسبقاً (طفرات الإضافة).
- الطفرات السلبية المسيطرة. وهي طفرات تؤدي إلى اختلافات وظيفية كمتلازمة مارفن (وهو مرض جيني يؤدي إلى خلل في النسيج الرابط، يؤثّر على العديد من الأجهزة، مثل الهيكل العظمي، الرئتين، العينين، القلبِ والأوعية الدموية. يمكن تميز المرض من خلال الأطراف الطويلة جداً،
- الطفرات المميتة: وهي كما هو واضح من اسمها تؤدي إلى توقف الوظائف الحيوية الهامة لاستمرار الكائن بالحياة.

نذكر أيضاً أن الطفرات تؤدي إلى اختلافات مظهرية (كطول نبتة مثلاً) أو (اختلافات أنزيمية كيميائية حيوية) في الوظائف الحيوية لكائن الحي.
للمزيد عن اسباب حدوث الطفرات، اضغط هنا 

عودة إلى التطور بنظرة اعمقنستطيع الآن تعريف التطور بشكل أدق. التطور هو التغير في الحوض الجيني (Gene pool) الخاص بجماعة ما على مدار الزمن. الجين هو العنصر الذي ينقل الصفات الوراثية لأجيال عديدة، والحوض الجيني هو مجموعة الجينات الخاصة بنوع أو جماعة ما.

المثال الأكثر شهرة والأبسط لمراقبة التطور هو العثة الإنكليزية وهو مثال يتم تدرسيه على مستوى واسع. هذه العثة تملك جينا وحيدا يحدد لونها (كاشف أم قاتم). وكان اللون الكاشف هو الغالب على جماعتها. ارتفعت أعداد الأفراد التي تحمل لونا داكنا من نسبة 2% في عام 1848 إلى 95% في عام 1898 في مدينة مانشستر. إن التغير في انتشار الجين المسؤول عن اللون الداكن عبر الزمن هو ما ندعوه (التطور). هذا الجين هو جزء من الحوض الجيني الخاص بهذه العثة.
أما ازدياد عدد الأفراد التي تحمل هذا الجين (ذات اللون الداكن) على حساب تلك التي تملك اللون الكاشف فهو عائد إلى أحد آليات التطور وهي (الانتخاب الطبيعي). فتلك الفترة كانت فترة الثورة الصناعية. وبسبب انتشار التلوث والأدخنة التي غطت لحاء الأشجار فإن الطيور صعب عليها تمييز الأفراد ذات اللون الداكن بينما استطاعت التقاط الأفراد ذات اللون الكاشف. وبالنتيجة عاشت أعداد أكبر باللون القاتم (التي تملك جين اللون القاتم) وتم نقل تلك الصفة الوراثية إلى الأجيال اللاحقة، أما الأفراد التي لا تملك تلك الصفة فانخفضت أعدادها. مما أدى إلى هذا التغير في الحوض الجيني.
ملاحظة هامة. لاحظنا أن التطور يحدث حتما على مستوى الجماعات، فهو يحتاج إلى تنوع وراثي لكي يحدث، ولا يمكن لفرد في الجماعة أن يتطور لوحده (العثة الواحدة لا تستطيع تغيير لونها خلال دورة حياتها فهي إن كانت قاتمة أو فاتحة اللون ستبقى كذلك، والتطور حدث على مستوى الجماعة لا الفرد).
قسم علماء البيولوجيا التطور إلى نوعين، التطور الصغير Microevolution (كمثال العثة الذي ذكرناه – أو مثال تغير فيروس أنفلونزا الطيور حالياً) والتطور الكبير Macroevolution(عندما تجتمع التغيرات العديدة على مدار الزمن في الحوض الجيني لتجرف الجماعة وتحولها إلى نوع جديد) والفرق بين التطورين هو فقط في كمية التغيرات الوراثية المتجمعة في الحوض الجيني.
لنتخيل أن هذا التغير في مثال العثة حدث على طول الأجنحة، ووزن العثة بسبب طفرات جينية فأصبحت بأجنحة ضعيفة لا تستطيع الطيران، وعلى مدار الزمن فإن العثة ستتحول إلى حشرة لا تستطيع الطيران، وبالتالي فالانتخاب الطبيعي سيختار تلك الأفراد التي تستطيع الهروب من أعدائها الأرضيين (تلك التي تملك أرجل أطول وقدرة على الحركة بشكل أسرع)... وهلم جراً... إلى أن نصل إلى حشرة لا تطابق العثة إلا أنها قد تشابهها في بعض صفاتها الوراثية (التي لم يقضي عليها الإنتخاب الطبيعي لعدم أهميتها و لم تتعرض لطفرات حذف- في حال تعرضها لطفرات حذف وظائف أو صفات مهمة لاستمرار النوع وتدخل آليات التطور الأخرى (كالجرف الجيني) فإن تلك الطفرة قد تقضي على النوع وتسبب انقراضه).

التنوع الجيني
وهو من متطلبات حدوث التطور (لو أن العثة الإنكليزية لم تملك جين اللون القاتم لما انتشر ولما تحولت من عثة بلون كاشف غالب إلى عثة ذات لون داكن غالب).
ولكي يستمر التطور في الأنواع فيجب أن توجد آليات تقوم بزيادة أو إنقاص هذا التنوع الجيني بشكل مستمر. تلك الآليات هي مصدر التنوع الجيني الذي يعمل عليها الانتخاب الطبيعي.

التنوع الجيني له مكونان رئيسيان
الاختلاف في النظائر الجينية (allelic diversity). والترابطات اللاعشوائية لتلك النظائر الجينية.

أما النظائر الجينية فهي نسخ من جين مسؤول عن صفة الوراثية واحدة نشأت بسبب الطفرات التي تطرأ على هذه الجينات (مثلا الجين المسؤول عن زمرة الدم يملك ثلاث نظائر (A –B – O). ومعظم الحيوانات (بما فيها الإنسان) هي كائنات مضاعفة الصبغيات (تملك حجرة مضاعفة لجينين متناظرين– نسخة موروثة من الأب وأخرى من الأم). فالبشر يملكون زمر دم متعددة مرتبطة بوجود هذين الجينين المتناظرين لنفس الصفة الوراثية (AA-AB-AO-BB-BO-OO). وإن كان النظيرين متماثلين كحالة (AA) مثلاً فيدعى الفرد homozygous. أما الفرد الذي يملك نظيرين مختلفين فيدعى heterozygous كحالة (AB) مثلاً.
هذا التنوع الجيني موجود في الطبيعة بشكل كبير، فـ 45 بالمئة من الحجرات الجينية في النباتات تحوي أكثر من نظير في الحوض الجيني وأي نبتة تملك نظائر مختلفة heterozygous في 15 بالمئة من حجراتها. بينما هذه النسبة في الحيوانات تتغير من 15 بالمئة (في الطيور) إلى أكثر من 50 بالمئة في الحشرات، الثدييات والزواحف تملك نسبة 20 بالمئة من حجراتها في حالة heterozygous. البرمائيات والأسماك تملك نسبة 30 بالمئة.
بالقياس على الأعداد الهائلة للصفات الوراثية ففي معظم التجمعات فإن الإختلاف في النظائر يكون بنسبة كافية لتعطي إختلافاً بين كل فرد من الأفراد (لا يمكن أن يتشابه فردان في ذلك إلا إذا كانا توءماً حقيقياً – من بيضة ملقحة واحدة)
إن وجد في المجموعة الواحدة جينان مختلفان بالحجرة (صفتان متلازمتان) سوية بشكل أكبر من المعدل فإن النظائر الجينية تكون في حالة ما يسمى باختلال الترابط linkage disequilibrium... هذا الاختلال في الترابط هو مؤشر على التقارب الفيزيائي للجينات أو مؤشرا على وجود آلية انتخاب طبيعي (وجود جينان اثنان يقومان بوظيفة تساعد على بقاء الكائن بسبب نظائرهما).

مثال:
في أحد أنواع العث على سبيل المثال فإن هناك وجود متكرر لجينان هما جين مسؤول عن اللون وجين مسؤول عن الشكل.
الجين المسؤول عن شكل الجناح له نظيران أحدهما يؤدي إلى ظهر ذيل للعثة والآخر يلغيه (لاحظ أن النظائر متشابهة بالتركيب – بسبب الطفرات على الجين الواحد – لكنها قد تقدم وظائف إضافية مختلفة)
ولدينا أيضا الجين المسؤول عن لون الجناح... من هذا التنوع لدينا أربع احتمالات لشكل العثة
(قاتمة بذيل – كاشفة بذيل – قاتمة بلا ذيل – كاشفة بلا ذيل) ولاأنواع الأربعة تظهر عند اجراء التزواجات في المختبر لكن في الطبيعة نجد أن النوعين الغالبين هما (كاشفة بذيل – وقاتمة بدون ذيل) هذا الإختيار المنظم يقوده الإنتخاب الطبيعي.
فالعثة الكاشفة والتي تملك ذيلاً تشبه بشكلها نوعا كريها من الحشرات لا ترغبه الطيور، وتلك القاتمة بلاذيل لا تراها الطيور... وهذا أدى إلى ارتباط صفتان منفصلتان فيزيائيا تماما (لون الجناح ووجود الذيل) بسبب الإنتخاب الطبيعي وبالتالي فقد نشأت الرابطة التي تحافظ على هاتين الصفتين والتي ندعوها linkage disequilibrium.
قلنا سابقا أن شرط استمرار التطور في الأنواع متوقف على وجود آليات تقوم بزيادة أو انقاص هذا التنوع الجيني بشكل مستمر. تلك الآليات هي مصدر التنوع الجيني الذي يعمل عليها الانتخاب الطبيعي

الصفات المتنحية والمسيطرة. Recessive and Dominant
لكل صفة وراثية في الفرد حجرة مضاعفة للصفة الوراثية كما رأينا، هذه الصفة تكون إما متنحية أو مسيطرة، الصفة المتنحية هي الصفة التي لا تظهر على الفرد إلا في حال تكرارها (وجود نسخة مضاعفة منها) أم الصفة المسيطرة فتكفي نسخة واحد من مورثها لكي تظهر على الفرد.

تلك الآليات هي (التطفر أو نشوء الطفرات mutation – الانتخاب الطبيعي natural selection – الجرف الجيني genetic drift – إعادة التجميع recombination - والتدفق الجيني gene flow).

آليات التطور
- الانتخاب الطبيعي Natural selection
بعض أنواع الأحياء في مجموعة ما تنتج أعداداً أكثر من أنواع أخرى في نفس المجموعة، وبمرور الزمن نجد أن ذلك النوع ذو الإنتاج الأكبر تزداد أعداده مقارنة بالأنواع الأخرى، إن الفرق في تلك الأعداد هو ما ندعوه الانتخاب الطبيعي.



الانتخاب الطبيعي هو الآلية الوحيدة تعطي التطور التكيفي، أي التغير المناسب للتكيف مع البيئة على مدار الأجيال وهو بالتعريف (النجاح المتباين لتكاثر أحد أصناف الجينات المختلفة في الحوض الجيني). أكثر أفعال الانتخاب الطبيعي شيوعاً هو إزالة الاختلافات الغير مناسبة التي تنتجها الطفرات أو بكلمات أخرى فإن الانتخاب الطبيعي يقوم دائما بمنع الجينات النظيرة (alleles) التي تنتج عن التطفر من زيادة أعدادها واستمرارها في حال كانت غير ملائمة لوجود الكائن في بيئته. وهذا أدى إلى استنتاج أن التطور مستمر بالرغم من وجود الانتخاب الطبيعي لأن حدوث الطفرات مستمر ودائم والانتخاب الطبيعي فقط يحدد انتشارها . من ناحية أخرى فإن الانتخاب الطبيعي يحافظ على استمرار تنوع جيني معين أو استمرار في الجينات النظيرة (كما رأينا في مثال العثة ذات اللون وشكل الذيل).
مثال آخر تمت دراسته هو مرض الملاريا لدى البشر وهو مثال عن الانتخاب المتوازن.
هناك حجرة في جينية لدى الإنسان تحوي الشيفرة الوراثية المسؤولة عن شكل كرية الدم الحمراء (إن كانت عادية أو هلالية الشكل). حوت تلك الحجرة على نظيرين متماثلين مسببان لتشوه شكل كرة الدم الحمراء فإن الإنسان يصاب بفقر الدم (لزيادة عدد كريات الدم المشوهة العاجزة عن نقل الأوكسجين). في حال وجود نظيرين مختلفين في تلك الحجرة (واحد يؤدي إلى التشوه وواحد يعطي كرية دم طبيعية) فإن عدد الكريات المشوه يقل لكن الإنسان يملك في تلك الحالة مناعة أكبر ضد مرض الملاريا لأن شكل الكريات المشوه يجعل من الصعب على على البلاسموديا (حاملة مرض الملاريا) اختراقها وإصابتها وتكون مناعة الإنسان في تلك الحالة أكبر ضد الملاريا.
سنرمز للجين المسؤول عن التشوه بالرمز M والجين النظير الطبيعي N... لدينا ثلاث فئات الآن من البشر
1- (NN) = كل الكريات سليمة لكن حاملها ليس منيعا ضد الملاريا.
2- (ND) = بعضها مشوه وحاملها يملك مناعة ضد الملاريا لهذا السبب.
3- (DD) = كلها مشوهة وحاملها مصاب بفقر الدم.
تمرر تلك الجينات في البشر عبر الأجيال عند التكاثر،نلاحظ في أفريقيا أن أكثر الأفراد عرضة للموت قبل التزاوج (ونقل الجين) هم الفئة الأولى والثالثة بسبب انتشار الملاريا وبينما نجد صعوبة في إيجاد الحالة الأولى أو الثالثة بين الأفراد تكثر الفئة الثانية... التي تنجو ويتم الحفاظ على استمرارها. في هذه الحالة فإن الانتخاب الطبيعي حافظ على التنوع الجيني (ND) وأزال التماثل NN و DD.

من خلال ما وجدناه عن آلية الإنتخاب الطبيعي يمكننا استنتاج أخطاء في تناول فكرة الانتخاب الطبيعي...

1- الانتخاب الطبيعي لا يسبب ظهور جينات مختلفة جديدة (لا علاقة له بظهور الطفرات) إنما هو آلية يتم فيها الانتقاء من تلك التنوعات الجينية بالحذف أو زيادة التكرار. مثال على ذلك، تموت السلاحف في المنطق القريبة من المدن بسبب وقوعها تحت عجلات السيارات الثقيلة، والسلاحف بحاجة لغطاء أقوى من غطائها (غطاء معدني) لتنجو من ذلك الوزن الكبير... الانتخاب الطبيعي لم يفرز غطاءاً معدنيا لها لأن الصفة أصلاً ليست ضمن التنوع الجيني للسلاحف في تلك المجموعة.

2- الانتخاب الطبيعي لا يقود المجموعات دائما إلى حالة أفضل أو أمثل لأنه أعمى بلا إرادة أو وعي، هو ليس قوة بل تأثير... (بمعنى أنه لا يعمل ليغير المجموعة نحو ظروف أفضل في المستقبل) والمجوعمة تتبنى التغييرات الحاصلة في التنوع الجيني بحسب تغير البيئة. تلك التغيرات تأتي إلى المجموعة بسبب الطفرات لا الانتخاب الطبيعي، وقد تفنى المجموعة بسبب الانتخاب الطبيعي في حال تغير الظروف البيئية وعدم احتواء المجموعة على تعدد جيني مناسب (الانقراض). أي أن الانتخاب كما هو سبب في البقاء فهو أيضا سبب في الانقراض.
3- عبارة (البقاء للأقوى)خطأ وتؤدي إلى فهم خاطئ للتطور وآلية الانتخاب الطبيعي. الأفضل والأصح أن نقول (البقاء للأنسب ضمن بيئته وطفراته) لأن الموضوع نسبي تماما.
- الانتخاب الجنسي Sexual selection.
في عديد من أنواع الأحياء يطور الذكور صفات جنسية ثانوية ظاهرة. الأمثلة عليها ذيل الطاووس الملون والعديد من الألوان التي يتمتع بها العديد من ذكور الطيور، أو الأصوات المرتفعة التي تصدرها ذكور الطيور أو الضفادع لجذب الإناث. قد يبدو أن هذا يعارض الانتخاب الطبيعي لأنها تجذب مفترسيها ايضا وتقلل من فرص بقائها.
في الحقيقة فإن الانتخاب الطبيعي يمكن تقسيمه إلى عدة أجزاء يكون فيها بقاء الفرد أحدها فروع الانتخاب فقط. فالجذب الجنسي عامل مهم جدا لاستمرار النوع بقدر أهمية الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي عامل مهم جدا لحصول التزاوج وزيادة الأعداد وتكون أهميته أحيانا أكبر من أهمية الانتخاب الطبيعي حسب البيئة. فالذكر الذي يعيش لفترة قصيرة ولكنه قادر على التزاوج بشكل أكثر (وبالتالي قادر على إنتاج الأفراد بشكل أكبر) أفضل من ذكر يعيش لفترة أطول بعدد مرات تزاوج قليلة. وهنا تبرز أهمية الانتخاب الجنسي والصفات الجنسية في الأنواع. ففي عديد من المجموعات حيث يكون كل ذكر مسؤولاً عن تلقيح أعداد أكبر من الإناث يكون التمييز الجنسي في الشكل عاملا مهماً. في تلك المجموعات فإن التنافس ينشأ بين الذكور لتلقيح الإناث والتنافس قد يكون مباشراً أو سلبيا (بانتظار اختيار الأنثى التي تقبل التزاوج من الذكور الأكثر إثارة لاهتمامها).
مثال على ذلك سمك أبو شوكة، فذكوره تملك لوناً أحمر على جانبيها والإٌناث تختار الذكور الأشد حمرة، أكتشف أن زيادة اللون الأحمر تبعد الطفيليات عن تلك الأسماك، فالإناث اختارت الذكور لقلة الطفيليات التي تحملها لا لإعجابها باللون الأحمر بذاته. فالإنتخاب سبب زيادة أعداد الإناث التي تحب اللون الأكثر حمرة.

مثال مهم وشائع عن الإنسان، الرجال ينجذبون جنسيا في العادة إلى النساء اللوتي يملكن ثديين كبيرين، وكبر الثديان يعني حليباً أوفر للطفل وتغذية أفضل وبالتالي فرصاً أكبر في الحياة. معظم البشر لا يعرفون السبب الحقيقي لهذه الإثارة وأصولها وكما أن سمكة أبو شوكة لا تعي سبب انجذابها إلى الذكور الأشد حمرة فإن البشر لم يعرفوا سبب انجذابهم الحقيقي نحو المرأة ذات الثديان الأكبر أو الأرداف الأكبر.. والسبب بكل بساطة الانتخاب الجنسي. لقد عملت آليات التطور دون وعي (الانتخاب الجنسي) عبر ملايين السنين على انتقاء الذكور ذوي الاهتمام الأكبر بحجم ثديي المرأة وإقصاء الذكور ذوي الاهتمام الأقل بهما دون إدراك السبب الحقيقي لذلك الاهتمام. بنفس الطريقة فإن الذكور ينجذبون إلى المرأة ذات الأرداف الممتلئة التي تدل على صحة المرأة تميزاً عن المرأة الهزيلة.
شرح الموضوع أيضا سهل وبسيط... هناك رجال لا يهتمون بحجم الثديين أو الردفين وآخرون يهتمون بتلك الصفات (بسبب الاختلافات الجينية الناشئة عن التطفر)، كلا النوعان قام بتوريث تلك الصفة إلى أبناءه الذكور، لكن الذكور التي نشأت عن آباء اهتمت بذلك الحجم استمرت وبقيت بينما أولاد من لم يهتم بحجم الثديين وصحة المرأة لم يحصلوا على فرص بقاء كبيرة بسبب نقص التغذية، وعير الزمن ازدادت أعداد الفئة الأولى على حساب الفئة الثانية وصار في أيامنا هذه حجم الثديين والردفين مقياسا لجمال المرأة في نظر الرجل بشكل عام والاستثناءات قليلة. تلك الدوافع الجنسية التي يثيرها شكل جسم المرأة سببها الانتخاب الجنسي ببساطة.


الجرف الجيني Genetic driftلم يكن دارون على علم بآلية الجرف الجيني Genetic drift. هذا واحد من الأسباب التي تمنعنا من أن نطلق على علماء التطور الحيوي الحديث صفة (الدارونيين). يعرف الجرف الجيني بأنه الاختلاف في تكرار النظائر الجينية الخاضع للصدفة أو بشكل آخر هو ازدياد أو نقصان التكرار للنظائر الجينية في الحوض الجيني للكائن وتأثيره يكون أكبر في التجمعات ذات الأعداد الأقل.
لشرح الفكرة بشكل بسيط، نتخيل أننا نلقي قطعة نقود معدنية، احتمالات أن تسقط على الوجه أو الذيل متساو... لكننا لا نحصل دائما على نتائج متساوية، قد يظهر الوجه عدة مرات متتالية في حال كان عدد التجارب أقل ولا تقترب نسبة ظهور الوجهين بشكل متساو إلى عند زيادة عدد المحاولات، نفس الشيء بالنسبة للنظائر الناتجة عن التطفر، فقد تتكرر إحداها على حساب أخرى وتنتشر في مجموعة إن لم تكن المجموعة خاضعة لعدد كاف لتعديل الفرص وتساويها (مجموعات صغيرة).

هذه الآلية والآليات التي سبق ذكرها جميعا تصنف ضمن آليات الحذف، أو إنقاص التنوع الجيني سنذكر الآن الآليات التي تقوم بزيادة التنوع الجيني

التطفر Mutation.
تقوم الآلية الخلوية لنسخ الـ DNA في بعض لأحيان بأخطاء نسخ. هذه الأخطاء تغير ترتيب النيوكلوتيدات في الجين مما يؤدي إلى تغير الصفات الوراثية للكائن. هناك العديد من أنواع التطفر تم ذكرها سابقاً
تم قياس معدلات للتطفر في الجينات ووجد أنها ما بين 10-10 و 10-12 تطفر لكل جين في كل جيل واحد.
يقوم التطفر بإيجاد نظائر جديدة بعضها مفيد للكائن والكثير منها ضار، تدخل النظائر الجينية الجديدة إلى الحوض الجيني كنسخة وحيدة ضمن باقي الجينات وتكون احتمالات تكرارها ضعيفة فقط يفضل الكائن الذي يحملها في التكاثر، أو قد ينجح دون أن يمرر النظير الجيني الجديد إلى الجيل اللاحق، وبشكل عام يتعلق مصير الجين الجديد بالخلفية التي نشأ منها ويتوضع في حجرة جديدة في نفس الكروموزوم أو حتى في كروموزم آخر. واذا ازداد تكرار هذا النظير في المجموعة فسيرتبط بنظائر جينية أخرى في الحوض الجيني وتبقى فرص ارتباطه مع نفسه (تكراره في الحجرة الجينية) ضعيفة إن لم يزدد تكراره واذا كانت الصفة متنحية فلن تظهر إلا في الأفراد المتماثلة الجين homozygote. يبقى مصير الجين معتمدا على كونه حياديا أو مضر أو مفيد
النظائر الجينية الحيادية Neutral alleles.
معظم هذه النظائر تختفي قبل ملاحظتها. والقليل منها يستمر (زيادة نسبته والحفاظ على وجوده بسبب هذه الزيادة). سميت بالحيادية لأن لا دور لها في تركيب البروتين.
النظائر الجينية الضارة deleterious alleles.
يقوم الإنتخاب الطبيعي بتقليل معدلات هذه الجينات في الحوض الجيني وقد تبقى في الحوض الجيني بمعدلات منخفضة ولا يستطيع الإنتخاب الطبيعي إزالتها تماما من المجموعة إن بقيت مع نظير مسيطر (يمكن القول أنه صفة وراثية مختبئة) ، وقد ترتفع معدلاتها بسبب الجرف الجيني على مجموعة صغيرة تحملها. تبقى هذه الصفات موجودة في المجموعة ولو كانت ضارة إن كانت صفات متنحية. أفضل مثال عليها هو العديد من الأمراض الوراثية. تظهر عند تزاوج فردين يحملان ذلك الجين فتتم مضاعفة الصفة المتنحية وتظهر على الفرد.
النظائر الجينية النافعة Beneficial alleles
هي ببساطة طفرات تعطي صفات تزيد في فرص بقاء المجموعة... أحد الامثلة عليها هو جين ظهر نتيجة التطفر في بعوضة (كولكس بيبينز - Culex pipiens) وكان هذا الجين مسؤولا عن تفكيك الفوسفات الضوية (الذي يستخدم في المبيدات الحشرية الشائعة كالـ DDT . مما زاد انتشار البعوضة ومقاومتها للمبيدات الحشرية.. في الواقع فإن عدد الأفراد التي حملت تلك الطفرة كانت قليل... لكن المبيدات الحشرية قضت على الأفراد التي لا تملك هذا الجين تاركة الأفراد التي تملكه لتنتشر وتزداد أعدادها.

إعادة التركيب recombination.
كل كروموزوم موجود في نطاف البشر أو بيوضهم يحوي خليطا من جينات من الأب والأم لذلك الفرد. ويمكن فهم إعادة التركيب على أنه إعادة خلط الجينات لتعطي تركيبة جديدة. في الشكل أعلاه نرى الكروموزومات كما تبدو لنا من خلال المجهر الإلكتروني.. أما الشكل أدناه فيمثل كروموزوما واحدا وهو عبارة شريط الجينات (شيفرة الـDNA) ملتفة بشكل كبير... 
يختلف عدد الكروموزومات لكل نوع من الكائنات .. في البشر مثلا توجد في كل خلية بشرية 64 كروموزوما تخزن الشيفرة الوراثية الخاصة بالكائن الحي... أما الخلايا الجنسية (النطاف والبيوض) فتحوي نصف العدد (32). عند التزاوج فإن كروموزومات البيضة والنطفة تجتمع لتعطي 64 كروموزوما.

قلنا سابقا أن كل صفة وراثية لها مكان مضاعف ويوجد منها نسختان (من الأب والأم)، إعادة التجميع لهذه النسخ عند التزاوج والتلقيح تعطي تركيبات جديدة للشيفرات الوراثية لهذا الكائن بسبب تقابل النظائر الجينية الجديدة والمختلفة. وهذا التنوع الجيني الجديد تتم إضافته إلى الحوض الجيني للجماعة عند التكاثر.
التدفق الجيني Gene Flow
ويعني ببساطة دخول فرد جديد إلى المجموعة من نفس النوع لكن من مجموعة مختلفة وبتزاوجه مع أفراد المجموعة يقوم بإضافة صفاته الجينية إلى الحوض الجيني للمجموعة.. هذه الآلية تحدث بين مجموعتين تختلفان في العديد من الصفات... الأفراد التي تنتج هن هذه الآلية يمكن دعوتها بالأفراد الهجينة.

باختصار وبشكل ملخص عما سبق نستطيع وصف التطور بالصيغة التالية
التطور هو التغير في الحوض الجيني للمجموعات، وهو يحدث بمساعدة عدة عوامل، آليات ثلاث تقوم بإضافة نظائر جينية (صفات وراثية) للمجموعة (التطفر mutation – إعادة التركيب recombination – التدفق الجيني Gene flow). وآليتان اثنتان تقوم بإزالة النظائر الجينية من المجموعة (الجرف الجيني Genetic drift الذي يقول بإزالة النظائر بشكل عشوائي)، و (الانتخاب الطبيعي Natural selection والذي قوم بحذف الجينات الضارة من المجموعة). وكمية التنوع الجيني في المجموعة هي ناتج التوازن بين تلك الآليات.

يمكن للإنتخاب الطبيعي أن يزيد أيضا في تكرار جينات مفيدة ويدعى بالإنتخاب الإيجابي الدارويني positive Darwinian selection، وعندما يقوم بإزالة الجينات الضارة يدعى (الإنتخاب السلبي negative selection).
وجدنا أيضا التدفق الجيني يستطيع أيضا زيادة تكرار جينات نظرية بشكل كبير وعشوائي في حال دخولها إلى الحوض الجيني وتثبيتها.
مصير أي نظير جيني جديد يظهر بسبب التطفر أو التدفق الجيني أو إعادة التركيب مرتبط بمصير الكائن الذي ظهر فيه، ومرتبط أيضا بالنظير الذي يرتبط به، وأحيانا لا تكون فائدة هذا الجين أو ضرره عاملا في استمراره فإن كان الجين المرتبط به مفيدا وشائعا فسيزداد مع نظيره في المجموعة ولو كان هذا النظير الجديد ضاراً في حال كونه مثلاً صفة متنحية. وبالعكس، فإن النظير الجديد صفة مفيده للمجموعة لكنه ارتبط مضر فإن هذا الارتباط يمكن أن يقضي على تكراره بسبب آليات التطور.


الجزء الثالث 

التطور الدقيق والتطور الكبير Macroevolution and Microevolution.

قسم علماء البيولوجيا التطور إلى قسمين... التطور دقيق Microevolution وهو التطور الذي يحدث على مستوى الأحياء الدقيقة كالتطور الحاصل على الفيروسات والبكتيريا.
أما التطور الكبير Maqcroevolution فهو التطور على مستوى الكائنات المعقدة العديدة الخلايا، كالحيوانات والنباتات والفطور.. الخ...

أدلة التطور الكبير...
التطور الدقيق يمكن دراسته بشكل مباشر، لأنه يحدث بسرعة نسبيا، في كائنات سريعة التكاثر، طفراتها تؤثر بشكل مباشر على استمرارها وتنوعها، أما التطور الكبير فهو عملية جرت خلال سنين عديدة (مليارات السنين) لذا فإن دراسة أدلته تتم من نتائج علوم عديدة أخرى أهمها المقارنات الكيميائية الحيوية و علوم دراسة الجينات و الجغرافيا البيولوجية و علوم البنية العضوية والتشريحية للكائنات و علم الأحافير. كل فرع من هذه العلوم بحث كامل.
هذا بالذات احد الأسباب التي تجعل التطور مرمى سهلاً للنقاد في نظر الرأي العام، وصار على التطور أن يدافع ليس فقط عن نفسه بل عن باقي العلوم التي تدعمه. المضحك أن النقاد يلجأون إلى نقد كل تلك العلوم في سبيلهم إلى نقد التطور، ولا يدركون أن نصف علوم البشرية الكيميائية والبيولوجية والتشريحية هي دعائم للتطور.

الأدلة على التطور الكبير Macroevolution
إن دراسة الفروق بين تلك النسب في التطفر وأشكالها بين الأنواع المتقاربة ومقارنتها بالأنواع المتباعدة يعطي نتائج مهمة جدا في تحديد القرابات بين الأنواع المتباعدة والمدة التي انفصلت بها عن بعضها.إن وجدنا مجموعتان منفصلتان من زمن ليس بعيد نسبيا نجد أن الاختلافات في المادة الوراثية قليلة بينهما، أما في حال ابتعاد المجموعتان ذات الأصل المشترك عن بعضهما مدة زمنية طويلة فإن تلك الاختلافات تزداد،

لشرح هذه الفكرة بشكل مفصل سنعود للتحدث عن الجينات والطفرات قليلاً.

هناك مواقع يمكن أن يتغير فيها ترتيب النيوكليوتيدات دون أن يؤثر في تركيبة الحموضة الأمينية. تدعى هذه المواقع (المواقع الخامدة)، لكن هناك أيضا مواقع حساسة إن اختلفت فيها ترتيبات النيوكليوتيدات أعطت حمضاً أمينيا مختلفاً. تدعى تلك المواقع (مواقع التبديل). في الواقع فإننا نجد اختلافات أكبر في مواقع التبديل عندما نقارن مجموعتان حيويتان منفصلتان بعيدتان عن بعضهما. ورغم أن المواقع الخامدة ومواقع التبديل تتعرضان للنسبة نفسها من التطفر إلا أن الانتخاب الطبيعي لا يأبه بالمواقع الخامدة (لأنها لا تؤثر في تركيبة الحموض الأمينية والبروتينات) لكن الإنتخاب يقيد مواقع التبديل لأهميتها في إنتاج البروتينات.
بينت الدراسات والتجارب أنه في حال كانت المجموعتان من أصل مشترك فإنهما تشتركان ليس فقط بالتماثل في الجينات الفعالة والمواقع التي تؤثر في صنع البروتين. بل إن التشابه يكون أيضاً في المادة الوراثية التي لا تأثير لها وفي المواقع الخامدة في ترتيبات الجينات. وكلما ابتعدت المجموعتان المنفصلتان من أصل مشترك عن بعضهما زمنيا فإن الاختلافات بين تلك المجموعات تزداد على مستوى المواقع الخامدة ومواقع التبديل الفعالة.

ما هي أهمية كل هذا؟

إن كان الانتخاب يعمل كما هو متوقع له... فإن النسبة في الاختلاف بين مجموعتين في المواقع الخامدة ستكون مرتفعة (لعدم أهميتها وحريتها في التطفر دون أن يحددها الانتخاب) على عكس المواقع الفعالة التي يقوم التطفر بحدها...
قام العلماء فعلا بحساب فرق النسبة في تطفر كل من النوعين (الخامد والفعال) وكانت الدراسة على جينات البشر والقوارض (مجموعتان انفصلتا من حوالي 80 مليون سنة). كانت النتائج أن كل موقع خامد في التسلسل الجيني يعطي 4.6 نيوكليوتيد جديد كل (10 مرفوعة إلى الأس9) سنة بينما المواقع الفعالة تتغير بنسبة 0.85 فقط في الزمن نفسه.

التشابه التشريحي
كل المجموعات التي تنحدر من أصول واحدة تملك البنية التشريحية ذاتها، والإختلافات فقط في المقاييس والأحجام، فالخفاش والإنسان والحوت يملكون العظام نفسها. عظام يد الإنسان التي يظهر عليها اللحم هي نفسها عظام يد الخفاش التي تحمل جناح الخفاش أو زعانف الحوت. وكل الثدييات انحدرت من أصل واحد كانت له البنية التشريحية العظمية التي تملكها الأنواع حالياً. كلما اقتربنا أكثر بين الأنواع المتشابه فإننا نكتشف تشابهات أكبر بينها. والاختلاف في تطور تلك الأحياء هو أهم الأدلة. وكلما تطورت الأحياء فإن طريق تطورها يتنوع أكثر فأكثر، مثلاً نوعان من الفقاريات انفصلا في السابق وكل منهما تطور حسب بيئته، و هذا يؤدي إلى أن كل نوع سيقابل التطور من جديد ليس بناء على بيئته فحسب بل على الشكل الجديد الذي وصل إليه.
يمكن للتطور أيضا أن يقوم بتعديل أجزاء من دورة حياة الكائن ويترك أجزاء أخرى أحياناً. هناك اختلافات في مظاهر أجنة الفقاريات المبكرة. البرمائيات قديماً كانت تقوم بتكوين كرة من الخلايا الجنينية . لكن في الطيور والزواحف والثدييات فالشكل يكون على شكل قرص جنيني من الخلايا، وشكل الجنين المبكر هو نتيجة اختلاف تركيز المح في البيوض (أو ما ندعوه الصفار في البيوض). نجد أن بيوض الطيور والزواحف ممتلئة بالمح وبيوضهم تطورت بشكل مشابه للبرمائيات لكن تركيز مح البيوض قد أثر بشكل كبير في الجنين فالكرة من الخلايا الجنينية تم شدها لتصبح بشكل قرص وتم ودفعها لتقبع في قمة المح.. الثدييات خسرت ذلك المح وبقي شكل خلايا الجنين عند بدء التكوين بشكل قرص. إضافة إلى ذلك نجد أن الخلايا الجنينية تتجمع في فترة بضعة أيام على شكل بدائي سمكي قبل أن يبدأ تمايزها بشكل أكبر ويختلف. مثال آخر ... العديد من الأفاعي تملك أشكال عظام حوض بقيت في بنيتها من أجدادها التي كانت تملك القدرة على السير، بعض تلك الأشكال حصلت على وظائف جديدة خلال مسيرة التطور أيضاً فالزائدة الدودية في البشر تحوي الآن على خلايا دفاعية منيعة.
علم الأحافير أظهر نتائج مؤكدة لحدوث التطور، فالأحياء الأقرب تشريحيا إلى مجموعاتها تتواجد في أماكن قريبة جغرافياً. تم العثور على مراحل انتقالية بين الأنواع بشكل كبير، فالثدييات والزواحف تختلف في البنية الهيكلية العظمية فيما بينها وخصوصا في شكل الجمجمة. الفك في الزواحف مكون من أربع عظام واحد العظمة الأمامية تدعى بالعظمة السنية بينما نجد في الثدييات أن تلك العظمة هي الوحيدة في الفك السفلي (هي الفك السفلي في الثدييات عمليا).. والعظام البقية صارت جزءاً من الأذن الوسطى.
الزواحف تملك فكاً ضعيفاً وفما ممتلئاً بالأسنان المتشابهة. وفتح وإغلاق فكها يتم بواسطة ثلاث عضلات (الخارجية-والعجزية – والداخلية). أسنانها مدببة كلها. أما الثدييات فتملك فكا قويا وأسناناً متباينة، العديد من تلك الأسنان كالطواحن تمل عدة أطراف مدببة لكل سن. تم رصد التطورات المرحلية في العديد من الأحافير أهمها البروكينوسوكوس Procynosuchus والثريناكزودون Thrinaxodon والساينوغناثوس Cynognathus. وتم مراقبة تطور أشكال الفك وتغيره.
أقوى أدلة التطور الكبير والأصول المشتركة هو التصنيف المتداخل للأحياء. فالنباتات مثلاً يتم تصنيفها في البداية إلى (وعائيات ولا وعائيات )، النباتات الوعائية تقسم إلى (عديمة البذور وبذرية)، البذرية تقسم إلى (زهرية ولا زهرية)... الزهرية تصنف إلى (أحادية الجنس وثنائية الجنس). ولا يمكن أن نجد نباتات زهرية تتشابه بصفاتها الأخرى بشكل أكبر مع نباتات غير زهرية، كل الزهريات تتشابه بالصفات أكثر فيما بينها وتختلف أكثر بين التصنيفات الأخرى. الأنواع تحوي صفات ورثتها من اجدادها، وكل تصنيف فرعي يحوي خصائص مختلفة جديدة عن آبائه قام بتطويرها.

كيف يحدث التطور الكبير...
التطور الكبير فسر نشوء أنواع جديدة من أصول مشتركة، هذه الأنواع كانت مجموعة واحدة انفصلت عن بعضها وبدأت أحواضها الجينية بالاختلاف وفقا للبيئة التي تعيش فيها، وبالتدريج صارت أنواعا مختلفة تماماً، هذا ما يدعى بالـ Allopatric. والتطور يحدث على مراحل زمنية كبيرة فلا يمكن مراقبته بشكل مباشر في معظم الأحياء لكن تمت مراقبته في بعض الأنواع... أشهر المثال على ذلك هو نبات التراغوبوغون Tragopogon فقد تطور هذا النبات إلى نوعين مختلفين من النباتات في 60 سنة ... هذا التطور أعطى نوعان لا يمكنهما التزاوج مع بعضهما البعض وبالتالي أدى إلى انفصالهما تماما.

الإنقراض... أيضاً من أدلة التطور...
وهو يقسم إلى نوعين... الانقراض العادي والانقراض الجماعي.
الانقراض العادي هو ذروة تطور أي مجموعة حية وأسبابه عديدة جداً، فالتنافس على البقاء والظروف التي تعيش بها الأحياء تتغير بشكل كبير لا تستطيع الأحياء مقاومتها، بعض الأنواع تتمتع بفترات بقاء طويلة على الأرض، تستمر لفترات قصيرة جداً، فإذا كانت البيئة مستقرة استقر استمرار تلك الأنواع وإن اختلفت البيئة على نوع ما، ولم يكن يحوي آليات تواجه ذلك الاختلاف فإنه سينقرض.
أما الانقراض الجماعي Mass extinction فهو يحدث بسبب تغييرات كبيرة جدا على البيئة تقضي على أنواع بأكملها، يتبع هذا الانقراض أعداد ضئيلة من أنواع مختلفة استطاعت أن تنجو وتعطي نسلاً جديداً في بيئة جديدة. آخر انقراض جماعي حدث من حوالي 250 مليون سنة، تزامن هذا الانقراض لعديد من المجموعات مع إعادة بدء تشكيل الكتل البرية على الأرض وانخفاض منسوب البحر بشكل كبير.

بالنسبة للانقراض بشكل عام، فإن أشهر حوادثه هو ما حصل بين العصر الكريتاسي Cretaceous والتيرتياري Tertiary أو ما يدعى بفاصل الـ K/T من حوالي 65 مليون عام. هذا الانقراض قضى على الديناصورات، كان سببه اصطدام أجرام كونية كبيرة بالأرض، بعد ذلك الانقراض بدأت حلقات التطور بالنسبة للثدييات بالتنوع والظهور والانتشار وملئ الفراغ الذي تركته الديناصورات وراءها. وحاليا وجود البشر يسبب انقراض العديد من أنواع الأحياء.

التقييم العلمي للتطور ونقده.
كانت نظرية التطور في يوم من الأيام محل جدل ونقد، لكن في أيامنا هذه فلا مجال لنقدها، والجدل الآن في آليات التطور حول بعض الأنواع في بعض مراحل التاريخ لا أكثر. لازال العلماء يبحثون في الأحافير والسجلات التاريخية الأرضية، لكن فكرة التطور والأصل المشترك صارت حقيقة في الوسط العلمي
بصراحة في البداية لم أرد نقد (نقد التطور)، لكن هدف الموضوع في النهاية هو التعريف عن التطور، وعليه فإن التطور الذي قدمه معارضو التطور (الذين يدافعون عن فكرة الخلق) هو من أهم أساسيات التطور.
علماء الأحياء يستخدمون كلمة (هراء محض) في مواجهة كل ما يجدونه ناقداً للتطور في صالح الخلق، نجد أن نقاد التطور يتحدثون من خلفيات دينية تماماً (وهذا لا مكان له في العلم).. وهدفهم ببساطة هو الهجوم على التطور، فهم لا يقدمون بديلا علمياً ولا بأي شكل من الأشكال بل يعتمدون على تشويه حقائق علمية بطريقة مفضوحة تم الرد عليها من زمن بعيد لا أريد الدخول في تفاصيلها حاليا لطولها الشديد 


مصادر المؤلف:
موسوعة ويكيبيديا 
موقع شامل عن نظرية التطور 
موقع علمي على الانترنت 
موقع الأكاديميات الوطنية. 
جامعة واشنطن في سانت لويس. 
موقع للأخبار. 
جامعة بيكرلي في كاليفورنيا. 
شركة للإعلام والنشر العلمي
 

0 تعليق(ات):

إرسال تعليق

هذه المواضيع لا تمثل بالضرورة رأي ناشرها - أثير العاني

يسمح بإعادة النشر بشرط ذكر الرابط المصدر أو إسم الكاتب