الاثنين، 14 مايو 2007

تطور الدين اليهودي

تطور الدين اليهودي - دراسة فى اصول معتقداتنا المتوارثة
مقدمة

لطالما ظننت ان التفسير المسيحى للتوراة هو تفسير بالغ الاعوجاج و المراوغة, و لطالما ظننت ان الدين اليهودى يخفى اسرارا يخجل المسيحى من ذكرها , فبينما يقدم المسيحى صورة العهد القديم و كأنه منسجم مع العهد الجديد, فانا ارى فى العهد القديم تاريخ تطور شعب و دين, لقد كُتب لاساطير اليهود ان تصبح تراثا يدين به اكثر من نصف البشرية من مسيحيين و مسلمين...

الا ان اليهودية, كونها اولى الاديان التوحيدية لم تنشأ بين ليلة و ضحاها, بل شهدت تطورات كبيرة , و ان عدنا بها للاصل, نجد الجبين اليهودى-المسيحى-الاسلامى يندى لاصلها خجلا ..

اركز هنا على اليهودية عملا بمقولة"اضرب رأس الحية" لان اليهودية, اذا ما تفحصناها, نجدها ملحمة بشرية تطورت عبر آلاف السنين و ليست شريعة الهية ثابتة كما يدعى اليهود و المسيحيون ولا هى نتيجة تحريفات لشريعة اصلية كما يدعى الاسلام, ذلك الدين الذى يدعى حدوث "محرقة جماعية" للنصوص الالهية التى اتت من قبله, ليوفر على نفسه مشقة تفسير نصوص الاولين و توفيقها بعضا ببعض, و كان الاولى على هذا الدين الا يفترض روابط بينهو بين ما سبقه من الاديان , بدلا من القاء الكلام بهذا الاسلوب المستخف بعقول المؤمنين و الكفار على حد سواء.

نراجع فى هذا البحث الصغير مراحل تطور الدين اليهودى عبر فترات زمنية و نلاحظ معا دخول بعض المعتقدات لهذا الدين من حضارات مجاورة , بعض المعتقدات التى صارت لاحقا "ثوابت لا ينكرها عاقل" فى نظر اكبر دينين من حيث عدد الاتباع حاليا ...

سنعرض تاريخ اليهودية حسب بعض الحقب الزمنية و هى :
1- ما قبل موسى
2- شريعة موسى
3- الانبياء
4- ما بعد السبى لزمن يسوع الناصرى

اولا : مرحلة ما قبل موسى

يكتنف الغموض هذه المرحلة بشكل عام, لا يوجد اى ذكر لنهاية العالم او للحساب او لاى شكل من اشكال البقاء بعد الموت. لا يوجد اى ذكر للشيطان فى هذه المرحلة , و تتهافت حجج المسيحيين الذين يحاولون لصق قصة السقوط بالشيطان, فالتوراة تتحدث عن حية تغوى و حية تُعاقـَب و لا ياتى ذكر من قريب او بعيد للشياطين و لا تذكر التوراة ان الشيطان دخل فى حية او اتخذ شكلها, القصة واضحة و صريحة و لا تحتمل اى مط او لى عنق.

تذكر التوراة ان ابراهيم يعبد "الايلوهيم" و هذه الكلمة هى بصيغة الجمع , مما يدفعنا للاعتقاد ان اليهود القدامى كانوا يعبدون اكثر من اله واحد. قد يحتج البعض بان صيغة الجمع هى للتفخيم لكن من الملاحظ ان الاسفار المكتوبة بعد ذلك بكثير اصبحت تستخدم اللقب المفرد "ايل" مما يثير مزيدا من الشك و عموما فهنالك ملاحظات تالية تشدد على عبادة اليهود القدامى لالهة متعددة.

مما يستوجب التدقيق ايضا هو استخدام سفر التكوين لضمير الانثى عند الحديث عن الاله و استخدام مصطلحات انثويةMothering
وgiving birth through labor pains و تم تغيير هذه الالفاظ الىFathering عند ترجمة التوراة للانجليزية..

كما تتحدث التوراة عن الاله فى هذه الفترة باوصاف بشرية الى حد كبير يصل احيانا لتصور الاله على ان له جسما ماديا ايضا..
"وسمعا صوت الرب الاله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار."
"فحزن الرب انه عمل الانسان في الارض.وتأسف في قلبه"

ثانيا : شريعة موسى

يبدو ان شريعة موسى دفعت باليهودية للامام (او بالاصح للخلف!!) تجاه فكرة التوحيد , و هى لم تصل للتوحيد المطلق و انما طورت الفكر اليهودي من تعدد الآلهةPolytheismالى عبادة اله واحد بالرغم من الاعتقاد بوجود آلهة أخرىMonolatry و لعل هذا يتضح لنا من خلال النص التوراتى فى سفر الخروج "لا يكن لك آلهة اخرى امامي" فالنص لم ينفى قط وجود آلهة اخرى لكنه فقط دفع الناس لعبادة "يهوة" و يتكرر النص حرفيا فى سفر التثنية ايضا و بالمناسبة فالكلمة اصلا هىYHWH و التى تعنى حرفيا "انا هو ما انا عليه" و لهذه اللحظة يستخدم اليهود المحافظون الكلمة بهذا الشكل من دون كتابتها "يهوه"

من الملاحظ ان شخصية يهوه فى هذه الفترة كانت كريهة لحد بعيد, فمثلا الضربات المتتالية على شعب مصر كانت عدوانية بشكل غير مبرر, كذلك يبدو ان يهوه قد خالف الشريعة المتفق عليها بشكل عالمى و القائلة ان الاعمال بالنيات, فتذكر التوراة انه قتل رجلا لمجرد ان هذا الرجل كسر وصية عدم لمس التابوت لمجرد منعه من السقوط , اى انه جازى المسكين على اهتمامه بالتابوت بان قتله! و من المثير للسخرية ان التوراة تذكر ان داود نفسه استنكر هذا العمل !!
"ولما انتهوا الى بيدر ناخون مدّ عزّة يده الى تابوت الله وامسكه لان الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزّة وضربه الله هناك لاجل غفله فمات هناك لدى تابوت الله . فاغتاظ داود لان الرب اقتحم عزّة اقتحاما وسمّى ذلك الموضع فارص عزّة الى هذا اليوم"

هذا و لم تدخل معتقدات جديدة غير ما سبق ذكره لليهودية فى هذه الفترة.

ثالثا : الانبياء
لم تكن الايام التى اتت بعد موسى اياما سعيدة لليهود, فلقد دخلوا فى نزاعات داخلية, و دخلوا فى صراعات مريرة مع سكان الارض الفلسطينيين الاصليين, اراد اليهود ان يتحدوا تحت لواء ملك قوى واحد, و لقد كان هذا تحدى لسلطة القيادة الدينية , التى رأت فى ملك قد يكون علمانيا خطرا كبيرا على سلطتها, فالملك قد يكون مسالما لا يريد حروبا مع جيرانه, و قد يسمح بتزاوج اليهود مع الشعوب الاخرى, مما يعنى للسلطة الدينية نهاية العرق اليهودى و زورانه فى سلام مع الشعوب الاخرى, و يبدو ان هذا كان اخر شىء يريده كهنة يهوه....

و قد بدا الغيظ واضحا على النبى صاموئيل عندما طالبه الشعب علنا فى تحد واضح للسلطة الدينية باقامة ملك, و لقد ذكر صاموئيل على لسان يهوه فى حنق : " اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك.لانهم لم يرفضوك انت بل اياي رفضوا حتى لا املك عليهم. حسب كل اعمالهم التي عملوا من يوم اصعدتهم من مصر الى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة اخرى هكذا هم عاملون بك ايضا. فالآن اسمع لصوتهم.ولكن أشهدنّ عليهم واخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم"

و هكذا اضطر صاموئيل صاغرا الى الانصياع لرغبة الشعب فيما يبدو انه كان اول انقلاب علمانى على سلطة الدين فى التاريخ اليهودى...

و قام صاموئيل باختيار شاول راجيا ان يكون الاخير عند حسن ظنه, و كان اول اختبار وجهه صاموئيل لشاول هو مجزرة جماعية كما هو متوقع..لكن شاول فشل فى اول اختبار و اظهر تسامحا مع شعوب الجوار " وعفا شاول والشعب عن اجاج وعن خيار الغنم والبقر والثنيان والخراف وعن كل الجيد ولم يرضوا ان يحرّموها"
عندها ادرك صاموئيل ان شاول ميؤوس منه و سرعان ما افتعل خلاف مع شاول لينزع عنه السلطة الملكية و يعطيها لداود, الذى كان خير خادم لارادة يهوه (او بالادق كهنة يهوه !!) على ما يبدو ....

الا ان الاحوال من بعد داود تدنت كثيرا و صار هنالك صراع شبه دائم بين الملوك و الاهداف الدينية مما ادى لظهور عدد كبير من الانبياء اليهود و منهم عاموس و ميخا و اشعياء و ايليا.. الخ

و قد قدم الانبياء عددا من الاصلاحات الدينية التى اعتقدوا انها ستساعد الشعب اليهودى فى صراعه الدائم من اجل السيادة, و نذكر منها :
ا- التوحيد المطلق :
اصبح يهوه الان الها مطلق للكون كله, لا اله سواه, هو صاحب القدرة المطلقة على الكل سواء كانوا يهودا او لا . فنقرا فى اشعياء "انا الرب وليس آخر.لا اله سواي.نطّقتك وانت لم تعرفني" و يعد هذا تطورا ملحوظا لاله كان بالامس يقول "لا يكن لك آلهة اخرى امامي" ...

ب- الاخلاقية :
كان يهوه بالامس غيورا عبثيا سريع الغضب يقتل عزة المسكين بكل ظلم, لكنه اليوم اصبح الها عادلا مطلق الصلاح. بدأ الانبياء اليهود يرفعون من قدر الههم بكل عبارات التبجيل الاخلاقى, انه اله عادل و رحيم و محب لشعبه المسكين اسرائيل, و يقول لنا اشعياء على لسان يهوه الاخلاقى "لاني انا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم.واجعل اجرتهم امينة واقطع لهم عهدا ابديا" كما اصبح تركيز الانبياء الاكبر على اخلاق شعب اسرائيل و ضرورة الارتقاء بسلوكهم و ليس الزبائح و المحرقات ...

ظهر ايضا فى ايام الانبياء مفهوم بسيط جدا عن حياة قصيرة بعد الموت, فى "بيت التراب" شيؤولSheol و هو مكان يذهب له الميت و يبقى فيه لوقت قصير ثم يختفى عن الوجود بشكل ابدى.....

لقد كانت فترة الانبياء فترة مليئة بالسرقة و الظلم الطبقى و الكذب و الرياء و الفساد و الرشاوى, و لقد ظن الانبياء انهم يصلحون كل هذا بالعودة للاصول الموسوية, لكن هذا لم يكن صحيحا, فلقد كانوا فى واقع الامر يبتدعون دينا جديدا صار يهوه فيه الها واحدا يرمز للصلاح المطلق.. الا ان المستقبل كان يحمل حدثا هاما جدا.. لعله اهم حدث فى تاريخ الشعب اليهودى على الاطلاق.. و كانت تغيرات جذرية ستجتاح هذا الدين بسبب هذا الحادث.

رابعا: ما بعد السبى لزمن يسوع الناصرى

كانت هزيمة اليهود امام نبوخذراصر 597 ق.م و اسر عدد كبير منهم لبابل بمثابة اكبر كارثة حلت على الشعب اليهودى. الا ان هذا ليس كل شىء, فلقد غضب ملك بابل بشدة على توق اليهود المستمر للعودة لموطنهم. وقام فى عام 586 ق.م بالعودة لاورشليم و سحقها بمعبدها لتتفاقم فاجعة اليهود...

لم يكن العقل اليهودى مهيئا لكارثة بهذا الجحم, فيهوه قد وعد اسرائيل بارض الفلسطينيين, و قد عقد ميثاق شرف مع ابراهيم ان يحمى ابناء الاخير. فلماذا حدثت هذه الكارثة ؟

يبدو لى ان السبى كان اول حدث يجلب مشكلة الشر للعقل اليهودى, فلقد رأى اليهود لمحة من غوغائية الطبيعة و قسوتها, لكنهم بالطبع مازالوا مؤمنين بالههم, فلماذا حصل كل هذا ؟

يلجأ رجال الدين عادة فى هكذا مواقف للتحجج بان الكوارث الطبيعية او البشرية المصدر هى عقاب الهى على شر او معصية, و يبدو ان هذا الحل السمج كان حاضرا على اذهان كهنة اليهود ايضا..

فقامت جماعات اصلاحية تدعى ان ما حصل لليهود هو عقاب الهى عادل لنسيانهم اليهودية الاصلية و الانصياع وراء الانبياء الذين قللوا من شأن الذبائح لصالح السمو الاخلاقى و دعوا للعودة الى الاصول..

و تظهر الادبيات اليهودية التى كتبت بعد السبى روحا منسحقة و نفسا مكسورة الى مرارة الموت, على عكس روح العنجهة القومية التى سيطرت على كتابات اليهود قبل السبى..فتظهر بعض المزامير مدى الحزن و الكآبة التى كانت تسيطر على اليهود المسبيين, نذكر منها :
" على انهار بابل هناك جلسنا.بكينا ايضا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا اعوادنا. لانه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة ومعذبونا سألونا فرحا قائلين رنموا لنا من ترنيمات صهيون كيف نرنم ترنيمة الرب في ارض غريبة. ان نسيتك يا اورشليم تنسى يميني و ليلتصق لساني بحنكي ان لم اذكرك ان لم افضل اورشليم على اعظم فرحي. اذكر يا رب لبني ادوم يوم اورشليم القائلين هدوا هدوا حتى الى اساسها. يا بنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبى لمن يمسك اطفالك ويضرب بهم الصخرة"

و فى الواقع ان سفرا كاملا هو سفر ايوب اتى ليحاول تبرير مشكلة الشر, و لقد كٌـتب هذا السفر بعد قرن تقريبا من السبى. يبدو ان سفر ايوب من اكثر اسفار اليهود عمقا, و ذلك لانه لا يقتصر فى الحديث على الغنائم و الجنس و الحروب و الطقوس و انما يناقش مسألة فلسفية بشكل مسرحى.. لماذا يوجد الشر..؟

نلاحظ فى هذا السفر وجود شخصية شريرة و هى الشيطان (فى العبرية الكلمة هى : المشتكى) مما يظهر تبنى اليهود لفكرة اله الشر الزرادشتية... اما نهاية السفر فليس لها اى رد فلسفى عميق.. انما فقط ان يهوه لا يٌسائل.. هو ليس شريرا و لا ضعيف لا يقدر على رد الشر, لكن الشر يحدث و لا تسأل لماذا !!

زحفت المعتقدات الفارسية بشدة الى عامة اليهود فصارت هنالك مفاهيم جديدة لاول مرة فى عقول العامة و ظهرت بكثافة شديدة فى الكتابات اليهودية الغير معترف بها من قبل رجال الدين و المدعوة بالابوكريفا و لكنها لم تظهر بشكل واضح فى الكتب المقدسة اليهودية..

و نذكر منها :
ا- الشيطان : اصبح هنالك حاجة لتفسير الشر.. و من ثم لاله شر على غرارا (انجرا مانو) الزرادشتى, لكن بما ان اليهودية قد صارت دينا توحيديا, فاكتفى مصدر الشر بلقب "شيطان"..

ب-العالم الاخر : بما ان الشر امر سىء, و تعرض له اليهود انفسهم على ايدى البابليين, و بما ان يهوه الغوغائى قد صار عادلا منذ ايام الانبياء, فلابد من ثواب و عقاب.. و بما انهما لا يحصلان فى الدنيا, فلابد ان هنالك حياة اخرى بعد الموت يتم فيها هذا, حيث يكافأ الابرار و يعاقب الاشرار.. لقد تطورت معتقدات اليهود عما بعد الحياة كثيرا على بيت شيؤول القديم..

ج- نهاية العالم و المسيانية : سيأتى يوم, يحل فيه بطل عظيم هو المسيا, و هذا سيسحق كل الشرور و سيسحق شعوب الجوار المؤذية و ينشىء مملكة اورشاليم الخالدة.. هذه هى النهاية..
وربما كانت الفكرة السائدة عن المسيا كونه محارب عسكرى هى اكبر سبب فى رفض اليهود ليسوع الناصرى...

قاوم المصلحين هذه التجديدات بشدة كونها تمثل افكارا لم تذكر فى الكتب المقدسة ابدا و تعد زندقة من وجهة نظر يهودية بحتة.. لكن هذه الافكار لاقت قبولا كبيرا جدا لدى العامة و كـُتب لها ان تصير ثوابت فى المسيحية و الاسلام, و من ثم يؤمن بهذه الافكار اكثر من نصف سكان كوكبنا البائس فى القرن الواحد و العشرين.

و يذكر الانجيل ان الصدوقيون لم يكونوا مؤمنين باى حياة اخرى او ثواب و عقاب على عكس الفريسيين الذين آمنوا بكل هذا.. و يبدو ان ثمة طائفة ثالثة لم يذكرها الانجيل كانت موجودة و هى الايسينز و يرجح البعض انتماء يسوع لهذه الطائفة الاخيرة. لكن هذا امر يطول شرحه هنا..

ارجو ان اكون قد قدمت بحثا مفيدا يساعد المسيحيين و المسلمين على اخذ فكرة سريعة لتطور معتقداتهم التى يعتبروها ثابتة و ازلية, و اشكر كل باحث عن الحقيقة.

المراجع
1- التوراة
2- الموقع الرسمى لجامعة واشنطن
http://www.wsu.edu:8080/~dee/HEBREWS/CONTENT1.HTM

الكاتب: العزاء الصوفي

2 تعليق(ات):

إظهار/إخفاء التعليق(ات)

إرسال تعليق

هذه المواضيع لا تمثل بالضرورة رأي ناشرها - أثير العاني

يسمح بإعادة النشر بشرط ذكر الرابط المصدر أو إسم الكاتب