القسم الأول من كتاب تاريخ التعذيب في الاسلام .. للكاتب هادي العلوي
القسم الأول
مسح ترميزي للتعذيب في الإسلام
في الإصطلاح:
التعذيب اشتقاق حديث تقابله ثلاثة اصطلاحات قديمة: العذاب والبسط والمثلة. وقد استعمل الأولان في العصور الإسلامية بمعنى واحد يشير إلى إيلام الأسير أو المتهم على سبيل الانتقام أو الحصول منه على الاعتراف بشيء ما. والبسط يتعدى بعبارة (عليه) وهو بهذا المعنى مستعمل في دارجة بغداد ولكن متعدياً بنفسه فيقال: بسطه، بمعنى ضربه، والمبسوط هو المضروب، خلافاً للمراد منه في بعض اللهجات العربية الأخرى حيث يعني المبسوطة المستريح والمسرور. وهو اشتقاق من معنى الانبساط يعني الانشراح. أما المثلة فهي تشويه الشخص حياً أو ميتاً..
يرد العذاب في القرآن عند وصف العقاب الأخروي الذي يتم بتعريض أهل النار لصنوف من العقوبات وصفت في القرآن والحديث. وما يعدده القرآن من هذه العقوبات ينطوي اصطلاحاً تحت طائلة التعذيب ومنه: التحريق، الشيء بإنضاج الجلود، التجويع والتعطيش، سقي الصديد وهو القيح وسقي المهل أي المعادن المذابة.. وسيأتي الكلام عن هذه الأمور في القسم الثاني من الرسالة.
في الإصطلاح:
التعذيب اشتقاق حديث تقابله ثلاثة اصطلاحات قديمة: العذاب والبسط والمثلة. وقد استعمل الأولان في العصور الإسلامية بمعنى واحد يشير إلى إيلام الأسير أو المتهم على سبيل الانتقام أو الحصول منه على الاعتراف بشيء ما. والبسط يتعدى بعبارة (عليه) وهو بهذا المعنى مستعمل في دارجة بغداد ولكن متعدياً بنفسه فيقال: بسطه، بمعنى ضربه، والمبسوط هو المضروب، خلافاً للمراد منه في بعض اللهجات العربية الأخرى حيث يعني المبسوطة المستريح والمسرور. وهو اشتقاق من معنى الانبساط يعني الانشراح. أما المثلة فهي تشويه الشخص حياً أو ميتاً..
يرد العذاب في القرآن عند وصف العقاب الأخروي الذي يتم بتعريض أهل النار لصنوف من العقوبات وصفت في القرآن والحديث. وما يعدده القرآن من هذه العقوبات ينطوي اصطلاحاً تحت طائلة التعذيب ومنه: التحريق، الشيء بإنضاج الجلود، التجويع والتعطيش، سقي الصديد وهو القيح وسقي المهل أي المعادن المذابة.. وسيأتي الكلام عن هذه الأمور في القسم الثاني من الرسالة.
أغراض التعذيب وضحاياه:
استخدم التعذيب في العصور الإسلامية المختلفة لأغراض شتى سنقسمها لغرض الدراسة قسمين عريضين:
1 ـ تعذيب لأغراض سياسية.
2 ـ تعذيب لأغراض أخرى.
التعذيب السياسي:
إن التعذيب لغرض سياسي هو الأسبق ظهوراً في الدولة، ويرتبط ذلك بظاهرة الصراع الطبقي الذي تتولى الدولة إدارته من خلال دورها الشرقي المباشرة في سيرورة الإنتاج الاجتماعي، أو من خلال دورها الأوروبي في التعبير عن حاجات الطبقة السائدة في المجتمع. وإحدى الوسائل الأساسية في إدارة الصراع الطبقي هو القمع بأشكاله المختلفة.ويتوجه القمع أساساً ضد الطبقات المنتجة مستهدفاً غرضين: إدامة الإنتاج ومنع المنتجين من الوصول إلى السلطة. وبوجه عام، تلجأ إلى القمع السياسي الحكومات التي لا تملك قاعدة شعبية تكفيها لتبيت حكمها. واعتماد وسائل التعذيب في هذه الحالة يخطط له كوسيلة معوضة عن عزلة الحكام بقصد توفير الرادع الذي يمنع المقت الشعبي من أن يتحول إلى تحرك يهدد سلطة الحاكم. أو تطبيق لهذا النوع من التعذيب يرجع إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان. وكان معاوية يملك قاعدة شعبية متينة في الشام ساعدته على أن يشتهر بالحلم المأثور عنه، لكن استقلاله بالسلطة بعد تنازل الحسن بن علي أثار في وجهه عدة إشكالات.
ـ موقف جمهور المسلمين الذي اعتادوا حكم الخلفاء المقيد بالشرع والذي تجاوزه معاوية بعد أن أقام سلطته الفردية المطلقة.
ـ موقف العرب الذي لم يتعودوا الخضوع لسلطة لا سيما سلطة مستبدة. (اللقاحية الجاهلية).
ـ معارضة أهل العراق المتمسكين بالولاء لعلي بن أبي طالب وأولاده.
والمواقف الثلاثة متكاملة متداخلة لأن الرفض العراقي لمعاوية مرتبط من جهة بالتقاليد البدوية المناوئة للاستبداد ومن جهة أخرى بأسلوب الحكم الإسلامي المستند إلى مبدأ سيادة الشريعة. ومن هنا كان العراق مركز النشاط المعارض للحكم الأموي الجديد. ورغم أن معاوية اشترى ولاء العديد من الزعامات القبلية لهذا الإقليم الخطر فإنه لم يستطع السيطرة على المعارضة التي تحركت أحياناً خارج إطار القبيلة. وقد لجأ أول الأمر إلى المداراة فولى المغيرة بن شعبه، أحد دهاة العرب، حكم البلاد، لكن دهاء المغيرة لم يكن ناجعاً في تخفيف حدة المعارضة فعزل بوال آخر من طراز مختلف، هو زياد بن أبيه، وكان قد نجح في استدراج زياد مستفيداً من عقدة النسب وجمع له ولايتي الكوفة والبصرة اللتين يتألف منهما إقليم العراق آنذاك. وقد أظهر زياد مواهب إرهابية نادرة في صدر الإسلام وصار قدوة لمن بعده من الولاة والحكام المسلمين. وهو مشرع لعدة أمور سارت عليها السلطة الإسلامية فيما بعد، مثل منع التجول والقتل الكيفي وكان يعرف عندهم بالقتل على التهمة أو على الظن، وقتل البريء لإخافة المذنب، وقد طبقه على فلاح خرج ليلاً للبحث عن بقرته الضائعة خلافاً لقراره بمنع التجول في الليل، وقتل النساء، وهو غير مألوف عن العرب. ويخبرنا الطبري أن وكيل زياد على البصرة وهو الصحابي سمرة بن جندب أعدم ثمانية آلاف من أهلها تطبيقاً لمبدأ زياد في القتل على التهمة. ويروى السمعاني في الأنساب أن زياد أمر بقطع اللسان تطوير مبكر لفن التعذيب يدل على السرعة التي تقدمت بها دولة الإسلام في طريق تكاملها كمؤسسة قمعية.
يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: «تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس». ومناط الشبه هو شدة عمر التي استوحاها زياد في حكم العراق، ومن المعروف مع ذلك أن شدة عمر لم تقترن بحالات قتل كيفي، أو تعذيب، وإنما كانت درج من الحزم والضبط جعلته مهيباً في عيون الناس. ومناط الإفراط هو أن شدة عمر تحولت عند زياد إلى إرهاب دموي استوحاه الحجاج و مضى فيه إلى مداه الأبعد. والحجاج نسخة متطرفة من زياد وعلى يده أصبح الإرهاب حالة يومية شاملة يعيشها الناس على اختلاف فئاتهم ولمختلف الأسباب من سياسية وعادية. وقد أنشأ سجن الديماس المشهور. ويقال إنه كان بلا سقوف. وقدر عدد من كان فيه عند وزفاته بعشرة آلاف من الرجال والنساء.وكان التعذيب يطبق على الأسرى والمعتقلين تبعاً لحالاتهم، لكن الشكل السائد لإرهاب الحجاج كان القتل الكيفي بوسيلته الشائعة وهو قطع الرأس بالسيف.وأضاف الحجاج الصلب بعد القتل للأشخاص الذين لهم وزن خاصة في حركة المعارضة، وكان من ضحايا هذا الإجراء ميثم الثمار، من أصحاب علي بن أبي طالب المقربين.
استمرت سياسة التعذيب لأجل الإرهاب بعد استراحة قصيرة في خلافة عمر بن عبد العزيز، لتأخذ مدى جديداً على يد هشام بن عبد الملك في الشام وولاته في الأقاليم. وطبق هشام بنفسه طريقة القتل بقطع الأيدي والأرجل في بعض الحالات المشددة ومنها إعدام غيلان بن مسلم الدمشقي بتهمة القول بالقدر. وبنفس التهمة أعدم خالد القسري، عامله على العراق، والجعد بن درهم. وقد نفذ الإعدام ذبحاً. ولإعدام هذين الرجلين ملابسات سياسية معروفة في تاريخ القدرية والمعتزلة وكان خالد القسري قبل ولاية العراق والياً على الحجاز وأصدر حينذاك تحذيراً لمن يطعن في الخليفة أن يصلبه في الحرم، أي في داخل البيت الحرام. و من المعروف أن الشريعة حرمت قتل الحيوان في هذا المسجد واختلف الفقهاء فيما إذا كان يجوز قتل الأفاعي والعقارب فيه.
وطبق شقيقه أسد، حاكم خراسان، طريقة قطع الأيدي والأرجل والصلب على أتباع الحارث بن سريج الثائر على الأمويين في المشرق. ولدينا رواية في الطبري تفيد أن الإحراق استخدم في خلافة هشام لإعدام داعية من غلاة الشيعة هو المغيرة بن سعيد العجلي، وكان قد خرج على الدولة في ظاهر الكوفة أيام ولاية خالد القسري.
كانت خلافة هشام صحوة الموت للأمويين، وقد ورثه خلفاء قصار العمر وسط اضطرابات متلاحقة انتهت بالثورة العباسية التي قضت على مروان بن محمد آخر خلفائهم، وبويع للسفاح كأول خليفة عباسي. وقد واصل العباسيون تراث أسلافهم الأمويين وأضافوا إليه. ويذكر الطبري أن عدد من أعدمهم أبو مسلم الخراساني في المشرق بلغ ستمائة ألف بين رجل وامرأة وغلام. وكان إبراهيم الإمام، زعيم الدعوة، قد كتب إليه، بقتل أي غلام بلغ خمسة أشبار إذا شك في ولائه. واجه العباسيون بدءاً من خليفتهم الثاني أبو جعفر المنصور، معارضة متزايدة من نفس الجماعات التي عارضت الأمويين: الشيعة، الإمامية والزيدية، والخوارج والمعتزلة، ومن فرق ظهرت فيما بعد ضمت الشيعة الإسماعيلية ولواحقها وفروعها المختلفة، والخرمية والزنج، فضلاَ عن المنافسين للخلفاء والخارجين عليهم طمعاً في السلطان، واتبعوا لقمعها نفس الأساليب ولكن بعد تطويرها لمضاهاة التصاعد في أشكال المعارضة المسلحة. ولدينا روايات في «مقاتل الطالبين» لأبو الفرج الأصفهاني تفيد أن المنصور قتل بعض العلويين بدفنهم أحياء. وتطور القتل بالتقطيع إلى زيادة في عدد الأوصال المقطعة، فبعد أن كانت الأيدي والأرجل تقطع دفعة واحدة صارت تقطع إلى عدة أوصال ويضم إليها أجزاء أخرى من الجسم. وقد أبلغها الرشيد إلى أربع عشرة قطعة، مع تطوير في الوسيلة تضمنت استعمال مدية غير حادة بدلاً من السيف وبلغ القتل تحت التعذيب أشنع حالاته بعد الحقبة العباسية الأولى. ويرتبط ذلك بتعقد الوضع العام للمجتمع العربي الذي عانى مع ظهور الإسلام مخاضات التدرج من البداوة إلى الحضارة واستكملها في غضون القرن الأول للحكيم العباسي، حيث اقترن تبلور الدولة بالطلاق البائن مع بقايا المثل البدوية. وهكذا جاءت ذروة النمو الاجتماعي متوارية في حالة القمع المنفلت من الضوابط (وهو ما يفسر تبعاً لنفس المعيار حدة الثورة الاجتماعية لدى القرامطة، الذين ظهروا في هذه الحقبة، بالقياس إلى فرق المعارضة التي سبقتها).
وتأوبت الدويلات المنشقة على نهج الخلافة العباسية، لوجودها في نفس المرحلة. وكان الأمراء المتغلبون في المشرق نماذج متممة للخليفة العباسي في التعامل مع خصومهم السياسيين وهو ما نجده أيضاً في الأندلس، لا سيما في إبان الصراع بين ملوك الطوائف. ومن الجدير بالذكر هنا أن التعذيب السياسي ظل مقتصراً على الصراع الداخلي دون العلاقات الخارجية إلا في النادر. وكان هناك تمييز ملحوظ في المعاملة بين أسرى الحرب من الكفار وأسرى الحرب من المسلمين. وكان الأسير الكافر يستقر أو يفادى أو يقتل بالوسائل الاعتيادية تبعاً لأحكام الشريعة في أسرى الحرب ولم تجر العادة على قتله تحت التعذيب.
التعذيب لأغراض أخرى:
قلنا إن التعذيب السياسي هو أقرب ظهوراً في الدولة وأنه موجه في الأساس ضد الطبقات المنتجة لصالح الطبقة أو الطبقات السائدة. على أن الصراع الطبقي لا يتحدد في الواقع بهاتين الجبهتين العريضتين وإنما يسلك طريقه أيضاً إلى داخل الطبقة السائدة آخذاً شكل الصراع على الاستئثار بثمار عمل المنتجين. ومع نشوء حافز السلطة كقيمة مستقلة نسبياً عن وظيفة الدولة الاجتماعية لا سيما قي المشرق، يظهر صراع آخر يتمثل في التنافس على الاستئثار بالمزايا التي توفرها قيادة الدولة.
وتختلف هذه المزايا عن المزايا الطبقية في كونها ناشئة عن السلطة كمؤسسة لها خصوصياتها ضمن المجتمع الطبقي، وهي خصوصية ناشئة بدورها عن امتلاك أداة القمع وللتمتع بالقدرة على توجيه الآخرين وتسيير المجتمع، وبناء على تعدد جبهات الصراع، تتعدد حوافز القمع فتخرج به عن محض الغرض السياسي ليصبح جزءاً من السلوك اليومي للحاكم، أي «نزوعاً» يتعامل به مع سائر فئات المجتمع على اختلاف مواقعها من الخارطة السياسية للدولة. ويحدث أحياناً أن تتظاهر هذه النزعة في شكل من العصاب الذي اشتهر به الامبراطور الروماني نيرون. وظهر في العصر الحديث لدى هتلر وبعض الحكام العرب الصغار. وسنجد في تاريخنا الإسلامي آفات من هذا القبيل يتفق ظهورها مع استشراء القمع السياسي. وقد وجدت حالات تعذيب السياسي على يد العباسيين الأوائل منتهية إلى نشوء التعذيب غير السياسي كاتجاه سائد.
يشمل التعذيب في هذا المنحى:
ـ التعذيب للاعتراف.
ـ التعذيب للجباية.
ـ التعذيب للعقوبة.
التعذيب للاعتراف:
يستهدف انتزاع الاعترافات من المتهم في القضايا العادية كالقتل الشخصي والسرقة. وقد تطرق إليه أبو يوسف في كتاب الخراج وتشكى منه بمرارة مما يدل على انتشاره في الحقبة العباسية الأولى. والشكل المعتاد لذلك هو ضرب المتهم باليد أو بالهراوة أو السوط. وبالنظر لعدم مساس هذه الجرائم بأمن الدولة والمصالح المباشرة للطبقة الحاكمة، لم تستخدم فيها أساليب خارقة للعادة كالتي استعملت في التعذيب السياسي، رغم أنها عكست في ظهورها كحالة متكررة قو النزعة وشمولها. ولعل مما خفف الاندفاع فيه اختصاص القضاة بالنظر في هذه الجرائم بشيء من الاستقلال عن الدولة. و من شأن القضاة التحرج. كفقهاء. عن مخالفة الشريعة مالم يتعرضوا للضغوط من أرباب السلطة أ, يخضعوا لاعتبارات شخصية معينة.
التعذيب للجباية:
وجه لاستحصال الخراج أو الجزية من الفلاحين وأهل الذمة. وتشير رواية عن هشام بن حكيم بن حزام سنفصلها فيما بعد إلى ظهور هذه الممارسة أيام الصحابة. لأن هشام صاحبي. ولكن دون تعيين ما إذا كانت قد حصلت في زمن خليفة راشد أو أموي. على أية حال فإن تعذيب الخاضعين للضريبة قد تفاقم على يد الأمويين بتأثير قوة الداعي إليه وهو الحصول على المال، مع شيوع الامتناع عن الدفع نتيجة سياسة الإفقار التي اتبعه الأمويون ضد مجمل السكان. وترجع الكثير من وقائع التعذيب لهذا الغرض إلى زمن الحجاج، الذي ربطت بعض الروايات بين شدة بطشه وتضاؤل حصيلة الخراج في أيامه. وهناك ما يدل على أن التعذيب أصبح قاعدة متبعة في الجباة، وهو ما كان يعنيه أبو حمزة الخارجي في خطبة ألقاها بالمدينة إثر احتلال قصير الأمد لها عام 128 حين قال مشيراً إلى الخليفة الأموي:
لبس بردتين قد حيكتا له وقومتا على أهلها بألف دينار، قد أخذت، أي الدنانير. من غير حلها وصرفت من غير وجهها بعد أن ضربت فيها الأبشار وحلقت فيها الأشعار» (الأبشار ـ جمع بشرة).
يقصد أبو حمزة جلد الخاضعين للجزية والخراج وحلق شعرهم لإرغامهم على الدفع، وقد صدرت عن عمر بن عبد العزيز عند استخلافه تعليمات لعلاج هذا الوضع تضمنت النهي عن كل صنوف التعذيب ولأي غرض. ويبدو أنه حقق بعض النجاح في وقف موجة التعذيب ولكن رحيله العاجل بعد أقل من ثلاث سنوات أعاد الأمور إلى نصابها السابق. وتدلنا رواية لليعقوبي على استمرار هذه الأساليب حتى عهد الرشيد حيث ذكر أن الفضيل بن عياض، المحدث الزاهد، رأى أناساً يعذبون في الخراج فاستنكره بالاستناد إلى حديث نبوي في النهى عن التعذيب، وتذكر الرواية أن الرشيد لما بلغه ذلك أمر برفع العذاب عن الناس. وارتفع العذاب من تلك السنة. والعذاب الذي رفعه الرشيد هو عذاب الجباية وليس غيره، وقد مر بنا أنه مارس التعذيب السياسي، ولا شك في أنه استؤنف بعد الرشيد، مع افتراض التقيد بالمنع في حياته.
من قبيل تعذيب الجباية تعذيب عمال الخراج الذين يتهمون بالاختلاس وهو أمر مألوف في الوظائف المالية، وكان المتورطون فيه من كافة المراتب، الوزير فرئيس الديوان فالموظفون. وكان من الشائع أن يسطو الوزير أو رئيس الديوان على قدر من الأموال التي تحت يديه بعلم خليفته أو سلطانه، لكن حسابه يؤجل إلى ما بعد العزل، الذي غالباً ما يقترن باستجواب لأجل المصادرة يتضمن التعذيب في حالة الإنكار. أما الموظفون فهم عرضة للاستجواب في كل وقت. و تشتد وقائع الاختلاس، وما يتبعه من تعذيب، حين تكون الدولة في حالة انحلال أو فساد عام وهذا هوا لسبب في استشرائه بعد الحقبة العباسية الأولى حيث سيطر المتغلبون الأتراك على الخلافة منذ مقتل المتوكل وتجزأت الدولة إلى دويلات. وقد استخدمت لتعذيب المختلسين وسائل وأساليب يحتمل أن تكون مكرسة لهذا الغرض، منها التنور الذي ابتكره وزير الواثق محمد بن عبد الملك الزيات، وسنصفه لاحقاً. وقد استمر التعذيب دون أن يتوقف الاختلاس، فكان هناك على الدوام مختلسون من مختلف ومعذبون بتهمة الاختلاس.
التعذيب على سبيل العقوبة:
تتضمنه بعض مواد العقوبات المنصوص عليها في الشريعة وهي الجلد للسكران والزاني غير المحصن والمحكوم بالقذف، والرجم للزاني المحصن، وقطع يد السارق، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطرق وصلبهم، ويصح على هذه العقوبات اسم التعذيب من جهة كونها وسائل لإيلام المحكوم سواء كانت خفيفة نسبياً كالجلد أو شديد كالرجم وقطع الأوصال، وهو ما يميزها عن العقوبة الاعتيادية بالسجن الذي تفترض القوانين الحديثة عدم اقترانه بإيلام السجين إلا في الجرائم المعاقب عليها بالأشغال الشاقة. ومن الناحية العملية، لم يستخدم الرجم إلا نادراً، بخلاف الجلد والقطع والصلب التي استمرت في مختلف الأزمان. على أن عقوبات التعذيب لم تتحدد بالشرع وإنما امتدت إلى جرائم عادية أخرى رغم التشديد في النهي عن تجاوز الحدود المقررة. وتتصل بعض هذه الخروقات بأيام النبي محمد نفسه حيث أعدمت امرأة بأمر زيد بن حارثة بربطها إلى فرسين جرياً بها ولم تذكر المصادر ما إذا كان ذلك قد تم بعلمه، وقد مد الحكام المسلمون هذه العقوبات إلى مخالفات أخرى كجرائم الفكر والسرقة، كما استخدموها للتأديب والانتقام الشخصي، وشملت عقوبة التعذيب كذلك حالات القصاص، وهو بحسب الشرع، الإعدام بقطع الرأس في قتل العمد، لكنه تجاوز هذا الحد في القصاص السياسي، ومن أمثلته تعذيب عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب، وتعذيب الخادم الذي قتل أبو سعيد الجنابي مؤسس الحكم القرمطي في شرقي الجزيرة العربية
فنون التعذيب وأبطاله:
لم يكن التعذيب مألوفاً في الجاهلية بالنظر لقيم البداوة المناهضة للتنكيل، وقد ظهرت منه بوادر في المدن التجارية وجهت رئيسياً ضد العبيد، وفي بداية الدعوة الإسلامية بمكة وجد تجار قريش حاجة لإرهاب عبيدهم ومواليهم الذين أسلموا فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام.، وكانت وسيلتهم في ذلك هي التشميس الذي يعتمد على شمس الجزيرة الحارقة، فكانوا يكتفون الضحية ويلقونه في الشمس بعد إلباسه أدرع الحديد أو وضع جندلة على ظهره أو صدره ويترك على هذا الحال ساعات غير محددة قد تستمر مادامت شمس النهار في عنفوانها، وظهر التشميس أيضاً في صدر الإسلام لتعذيب الممتنعين عن دفع الخراج. ويتفاوت مفعول هذه الوسيلة تبعاً لشدة حرارة الشمس، فهي في العراق والجزيرة أوجع للضحية، وفي بلاد الشام أقل إيلاماً.
إن التشميس هو أقدم وسائل التعذيب وهو وسيلة مشتركة بين الجاهلية والإسلام. ونبدأ الآن بعرض مفصل للوسائل التي ظهرت في الإسلام.
حمل الرؤوس المقطوعة:
وتدخل في باب المثلة بالميت. وقد بدأها الأمويون في زمان معاوية، ويقال إن أول رأس حمل في الإسلام هو رأس عمرو بن الحمق، أحد أتباع علي بن أبي طالب، وقد قتله زياد بن أبيه، ومن الحوادث المشهورة في هذا الباب حمل رؤوس الحسين وأصحابه بعد معركة كربلاء، وقد ثبتت الرؤوس على الرماح وسير بها من كربلاء إلى الكوفة حيث قدمت لحاكمها عبيد الله بن زياد، ثم استأنفوا السير بها إلى دمشق لتقديمها إلى الخليفة الأموي، ولم تتكرر هذه المثلة بكثرة أيام العباسيين، إلا أنها انتشرت في الأندلس أيام ملوك الطوائف ومن المبرزين فيها المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية الذي أقام في قصره حديقة لزرع الرؤوس المقطوعة، وكان المعتمد شاعراً.
الضرب والجلد:
باليد أو السوط أو الهراوة أو المقرعة وهو الكل المعتاد في تعذيب الاعتراف، كما استعمل في التأديب والانتقام السياسي، والضرب باليد غالباً ما يكون صفعاً على القفا والوجنتين ولم يكن الغرض منه الإيلام بقدر الإهانة ويضرب بالهراوة على الكتفين والظهر والأرداف. أما المقرعة فللرأس وهي أشد إيلاماً من اليد والهراوة. ويمكن اعتبار المقرعة تطويراً للدرة، وهي عصا خفيفة كان عمر بن الخطاب يحملها في طوافه بالأسواق والدروب ويقرع بها المخالفين لتعليماته، وقد استبدل بها عثمان السوط، أو العصاب بحسب الروايات وكان ذلك من أسباب النقمة عليه.
أما الضرب بالسوط فهو الجلد، وينفذ في المضروب واقفاً أو مبطوحاً وقد يقنطر ويضرب وهو ما اختاره وإلى المدينة لجلد مالك بن أنس مؤسس المذهب المالكي. وكان قد أفتى كما في رواية لابن عبد البر في «الانتقاء» بعدم شرعية البيعة للمنصور لأنها أخذت بالإكراه، فأمر الوالي بتأديبه، وتم ذلك برفعه من يديه ورجليه بعد أن قلبوه على وجهه وأخذوا بجلده على الظهر وليس للأسواط مقدار معلوم إلا في العقوبات الشرعية التي تضمنت حداً أعلى هو مائة جلدة لجريمة الزنى، لكن التحديد الشرعي لم يعمل به وكان المقدار يتحدد تبعاً لرغبة الآمر وربما استمر حتى الموت كما حدث لبشار بن برد الذي جلد بأمر المهدي بعد أن هجاه. وغالباً ما يتم الجلد دفعة واحدة ولكن يحدث أن يقسط على دفعات، ومن أمثلته جلد أبو حنيفة، مؤسس المذهب الحنفي، مائة سوط بأمر حاكم العراق الأموي ـ عمر بن هبيرة ـ لرفضه عرضاً بالعمل في إدارته وقد نفذ الحكم بالتقسيط كل يوم عشرة أسواط، وكان الهدف من التقسيط إعطاءه فرصة للتراجع وقبول المنصب الذي عرض عليه.
تقطيع الأوصال:
ويشمل قطع اليدين والرجلين واللسان وصلم الآذان وجدع الأنف وجب المذاكير (الأعضاء التناسلية للرجل)، وقطع اليد الواحدة منصوص عليه في الشريعة عقوبة للسارق، وكذلك قطع اليدين والرجلين وهو لقطاع الطرق. وقد توسع الحكام المسلمون بعد الراشدين في هذه الوسيلة دون التقيد بالجرائم المنصوص عليها، وطبقت رئيسياً على الجرائم السياسية وكان المقطوع يترك حتى يموت من تلقائه فإذا لم يمت قطعوا رأسه، وأقدم مثال لهذه الطريقة هو قتل عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، وقد أعدم ببتر يديه ورجليه ولسانه وسمل عينيه، ثم قطع رأسه، والبتر وهو الغالب في هذه الحالات أما الصلم والجدع فنادراً ما يحصل ولكن جب المذاكير كان في بعض الأحيان عقوبة يفرضها السيد على عبده إذا صدر منه فعل جنسي لا يرضاه السيد.
سلخ الجلود:
في رواية لابن الأثير أن قائداً من الخوارج يدعى محمد بن عبادة أسر في أيام المعتضد بالله فسلخ جلده كما تسلخ الشاه. ونقل ابن الأثير حادثاً آخر كان ضحيته أحمد بن عبد الملك بن عطاش صاحب قلعة أصفهان الاسماعيلية. وكان السلاجقة قد حاصروا القلعة بقيادة السلطان محمد بن ملكشاه ثم افتتحوها وأسروا صاحبها ابن عطاش. يقول ابن الأثير: فسلخ جلده حتى مات، ثم حشى جلده تبناً. والغرض من حشوه عرضه بعد ذلك للتشهير والتخويف. وقبض المعز الفاطمي على الفقيه الدمشقي أبو بكر النابلسي بعد أن بلغه قوله: «لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة (الفاطميين) وواحد في الروم» واعترف بالقول وأغلظ لهم بالكلام فسلخوا جلده وحشوه تبناً وصلبوه. والسلخ من أشنع صنوف التعذيب ويستدعى الإقدام عليه نزعة سادية في غاية الإفراط، ولذلك لم يتكرر كثيراً.
الإعدام حرقاً:
فرضه أبو بكر على رجل مأبون يدعى الفجاءة السلمي، وكان قد نقل إليه إنه «يؤتى من دبره كما تؤتى النساء» وهو من الأمور التي لم يتعودها عرب الجاهلية وصدر الإسلام. وورد في حروب الردة ما يدل على أن أبا بكر ضمن تعليماته لقادة الجيوش التي أرسلها لمحاربة المرتدين أوامر بالإحراق. وروى الطبري كتابين له في هذا المعنى كما نقل وقائع نفذت فيها أوامره. ويخبرنا البلاذري في «فتوح البلدان» أن خالداً بن الوليد أحرق بعض المرتدين بعد أسرهم وأن اعتراضاً من الصحابة قدم لأبي بكر ضد هذا الإجراء، فردهم أبو بكر قائلاً: «لا أشيم سيفاً سله الله على الكفار» يقصد خالداً.
واستعمل بعض ولاة الأمويين هذه العقوبة ضد الثائرين عليهم. وقد ذكرت آنفاً إحراق المغيرة بن سعيد العجلي حياً بأمر خالد القسري حاكم العراق، وفي أوائل العباسيين أعدم الكاتب عبد الله بن المقفع حرقاً بأمر سقيان بن معاوية أحد ولاة المنصور. وقد طور العباسيون في وقت لاحق هذا الفن إلى شي الضحايا فوق نار هادئة. وهو ما فعله المعتضد بحق محمد بن الحسن المعروف بشيلمة أحد قادة الزنج في البصرة وكان المعتضد قد أعطاه الأمان ثم اكتشف أنه يواصل نشاطه المعادي سراً فأمر بنار فأوقدت ثم شد على خشبة من خشب الخيم وأدير على النار كما يدار الشواء حتى يتقطع جلده ثم ضربت عنقه.
وفي البداية والنهاية أنه وجد نصراني يشرب الخمر مع مسلمة في نهار رمضان فحكم نائب دمشق للمنصور ابن قلاوون بإحراق النصارني وجلد المرأة. فأحرق بسوق الخيل (حوادث 687هـ) والمنصور من حكام المماليك مصر.
تعذيب متعدد الوسائل:
تجمع هذه الطريقة عدة أشكال من التعذيب ضد شخص واحد. وقد استخدمت ضد أسرى القرامطة في بغداد ومن أمثلتها تعذيب ابن أبي الفوارس من قادة القرامطة في سواد الكوفة، بأمر المعتضد وتفصيله كما أورده الطبري.
وعلقت بالأخرى جندلة وترك في حاله تلك من نصف النهار إلى المغرب ثم «قلعت أضراسه أولاً. ثم خلعت إحدى يديه بشدها إلى بكرة متحركة. قطعت يداه ورجلاه في الصباح وقطع رأسه وصلب في الجانب الشرقي ـ من بغداد ـ وحملت جثته بعد أيام إلى محلة تدعى الياسرية كانت تعلق فيها جثث القرامطة ليصلب معهم.
مثال آخر وصفه الطبري أيضاً وهو لصاحب الشامة الحسين بن زكرويه قائد القرامطة في السواد وكان قد أسر مع عدد من أصحابه وجيء بهم إلى بغداد ليعدموا:
«بنيت دكة في مكان عام ونودي علي الناس لحضور حفلة الإعدام، وبدأوا يقتادون الأسرى واحداً واحداً وكان الرجل يؤخذ ويبطح فتقطع يمنى يديه ويحلق بها ليراها الناس ثم ترمى. ثم تقطع رجله اليسرى ويحلق بها لنفس الغرض وترمى، ثم يسرى يديه فيمنى رجليه ويرمى بكل ما يقطع إلى أسفل، ثم يقعد فيقطع رأسه ويرمى به مع جثته إلى أسفل.
وقدم حسين بن زكرويه وضربمئة سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وكوى بالنار فغشي عليه فأخذ خشب فأضربت فيه نار ووضع في خواطره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما، فلما خافوا أن يموت ضربوا عنقه. ورفع رأسه على خشبة فكبر الجلادون من فوق الدكة وتبعهم سار الناس بالتكبير». ولم تجر العادة بالتكبير في مثل هذه الأحوال إلا حين يكون الرأس المقطوع لعدو خطر. وهو ما فعله الأمويون عند قطع رأس الحسين بن علي في كربلاء، وكان الحسين بن زكرويه حينما أدخل إلى بغداد واستقبله الناس خاطبهم بقوله: يا قتلة الحسين.
تنور الزيات:
ابتكره محمد بن عبد الملك الزيات وزير الوثائق لتعذيب عمال الخراج المختلسين. وكان يصنع من خشب تخرج منه مسامير حادة وفي وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب وقد عذب فيه صانعه بعد عزله زمن المتوكل بسبب إهانة كان قد وجهها إليه قبل أن يستخلف. ووصف الطبري تعذيبه على الوجه التالي: «حبس أولاً. ثم سوهر (منع من النوم) فوكل به سجان ينخسه بمسلة كلما أراد أن يغفو. ثم ترك أياماً فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنباً فقدمت إليه فأكل. ثم أعيد إلى المساهرة أياماً نقل بعدها إلى التنور حيث مكث أياماً كلما أراد أن يغفو سقط على مسمار فانتبه، فكان يضطر إلى البقاء فوق الخشبة المعترضة ومقامة النوم. وهي الفكرة التي تكمن وراء صنع التنور بهذا الشكل، أي أن المعذب يجد أمامه خيارين، إما النوم على المسامير أو السهر طيلة إقامته في التنور.
أشكال مفدرة:
تدخل هذه الأشكال في عداد المبادرات الآنية ولذلك لا تجرى على نسق واحد أو تصميم متبع. وفيما يلي وصف لبعض الوقائع:
القتل بالطشت المحمى:
قبض السفاح العباسي على عبد الحميد الكاتب، وكان في معية مروان آخر الخلفاء الأمويين، فسلمه إلى صاحب شرطته فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه إلى أن مات..
الموت بالنورة:
من الوسائل التي قيل أن ابراهيم الإمام، زعيم الدعوة العباسية، قتل بها على يد مروان بن محمد آخر لفاء الأمويين وضع رأسه في جراب مليء بالنورة وشد عليه بإحكام. وقد ترك على هذه الحالة إلى أن مات مختنقاً.
النفخ بالنمل:
سعيد بن عمر الحرشي كان والياً على خراسان لعمر بن هبيرة حاكم العراق (كان المشرق يدار من العراق أيام الأمويين) وكان يستخف بأوامره، فأرسل إليه رجلاً يستطلع حاله، فعاد الرجل فأيد ما ذكروا عنه. وكان سعيد بعد أن علم بالرجل وضع له سماً في بطيخة لكنه لم يمت ورجع إلى العراق فعولج حتى برء. وعزل عمر بن هبيرة سعيداً وعذبه بأن نفخ في بطنه النمل. ولم تذكر الرواية إن كان قد مات أم لا.
التعطيش:
عام 403هـ هجمت خفاجة على الحجاج فقتلوا منهم خلقاً وهرب الكثيرون إلى الصحراء فماتوا عطشاً فقبض الوزير البويهي فخر الملك على قائدهم وأركانه وأمر بصلبهم على مسيل ماء بحيث يرونه ولا يصلون إليه حتى ماتوا عطشاً.
التبريد بعد الجلد:
أورد الغزالي في «إحياء علوم الدين»أن عبد الملك بن مروان خطب ابنة التابعي سعيد بن المسيب، وكانت مشهورة بجمالها، لابنه الوليد فرفض سعيد لورعه ومعارضته لسياسة الأمويين، فأمر عبد الملك بتأديبه فضرب مئة سوط في يوم بارد وألبس جبة صوف ثم صب عليه جرة ماء بارد. وارتكب عمر بن عبد العزيز إجراء مماثلاً بحق خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر من الوليد بن عبد الملك حين كان عمر والياً على المدينة وتقول بعض الروايات إن الوليد لم يضمن أمره صب الماء البارد وإن عمر أضاف هذه العقوبة من عنده، لعل هذا هو السبب في حدة شعوره اللاحق بالجريمة كما تقول الروايات حين أعلن الندم والتوبة وحاول التخلص من الولاية وكان يومذاك في الخامسة والعشرين من عمره.
التكسير بالعيدان الغليظة:
مر بنا ذكر خالد القسري الذي كان والياً على الحجاز ثم على العراق لهشام بن عبد الملك وقد عزل خالد بيوسف بن عمر الثقفي ثم قتل بسبب مخالفات صدرت منه ضد الخليفة، وكان قتله على الشكل التالي:
وضع عود غليظ على قدميه وقام عليهما عدد من الجلادين فكسرت قدماه.. ثم وضع العود في ساقيه فكسرتا بنفس الطريقة. ثم نقل إلى فخذيه ومنهما إلى حقويه وانتهى العمود إلى صدره فكسر، وعندما مات، وكان خلال ذلك ساكتاً لا يتأوه..
قرض اللحم:
استخدمه قرامطة شرقي الجزيرة وكان مؤسس الدولة القرمطية أبو سيعد الجنابي قد اغتيل بيد خادمه بعد أن دخل الحمام، وقام الخادم بعده بقتل عدد من القادة استدرجهم إلى الحمام وقبضوا على الخادم بعد اكتشاف أمره فشدوه بالحبال ثم أخذوا يقرضون لحمه بالمقاريض حتى مات.
إخراج الروح من طريق آخر:
عقيدة خروج الروح من الفم عند الموت أوحت للمعتضد بأشكال من القتل أراد بها إخراج روح المقتول من غير طريق الفم. قال المسعودي في «مروج الذهب» إن المعتضد كان شديد الرغبة في أن يمثل بمن يقتله وذكر من وسائل ذلك:
1 ـ إذا غضب على القائد النبيل أو الذي يختصه من غلمانه أمر أن تحفر له حفيرة يدلى رأسه فيها ويطرح التراب عليه ويبقى نصفه الأسفل ظاهراً فوق التراب ثم يداس التراب بالأرجل حتى تخرج روحه من دبره بعد أن تكون قد سدت كل المنافذ التي يمكن أن تخرج بواسطتها من فمه.
2 ـ يؤخذ الرجل فيكتف ويؤخذ القطن ويحشى في أذنيه وخيشومه وفمه. ثم تضوع منافخ في دبره حتى ينتفخ ويتضخم جسده. ثم يسد الدبر بشيء من القطن. وبعدها يفصد من العرقين فوق حاجبيه حتى تخرج من ذلك الموضع.
قلع الأظافر:
أقيمت وليمة قرشية حضرها هشام بن عبد الملك حين كان أميراً، ووجيه يدعى عمارة الكلبي، واقتضى ترتيب الوليمة أن يجلس عمارة فوق هشام، فاستكثرها منه وآلى على نفسه أن يعاقبه متى أفضت إليه الخلافة، فلما استخلف أمر أن يؤتى به وتقلع أضراسه وأظافر يديه. ففعلوا به ذلك. وكان يقول فيما بعد يندب نفسه:
عذبوني بعذاب.. قلعوا جوهر رأسي
ثم زادوني عذاباً.. نزعوا مني طساسي
بالمدى حزز لحمى.. وبأطراف المواسي
وهنا يذكر أشكالاً أخرى من التعذيب لم تذكرها الرواية ولعلها جاءت استطراداً منه لاستكمال صورة العدوان الذي وقع عليه.
التعذيب بالقصب:
فيروز بن حصين من قادة انتفاضة ابن الأشعث ضد الحجاج في العراق. أسر بع فشل الانتفاضة، وكان تحت يديه أموال طائلة يعود بعضها للحركة، ولاستحصال الأموال منه أمر الحجاج بتعذيبه، فعري من ملابسه ولفوه بقصب مشقوق ثم أخذوه يجرون القصب فوق جسده، ولزيادة إيلامه كانوا يذرون الملح ويصبون الخل على الجروح التي يسببها القصب.. وبعد أن يئس الحجاج من اعترافه بالأموال قطع رأسه.
التعذيب الجنسي:
من الوقائع النادرة في هذا المجال اغتصاب نساء المدينة على يد جنود أهل الشام بأمر من يزيد بن معاوية. وسيرد الكلام عليها لاحقاً. لكني لم أعثر حتى الآن على رواية موثوقة بشأن الاعتداء الجنسي على الأسرى أو المعتقلين. سوى ما رواه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن الحاكم بأمر الله الفاطمي كان يتجول في الأسواق على حمار ومعه غلام أسود ضخم فمن أراد تأديبه أمر الأسود فأولج فيه جهاراً. ويبدو أن التغليظ في النهي عن الزنى جهراً، مع بقايا القيم والتقاليد القبلية قد جعل مثل هذه الاقترافات غير ميسورة. وكان ولاة الأمويين يعتقلون النساء ويقتلونهن أحياناً ولكن مع عدم المساس بشرفهن الشخصي. وقصة زوجة الكميت بن زيد مع والي العراق خالد القسري تحتفظ هنا بدلالة مهمة. فقد كان الكميت معتقلاً بأمر هشام بن عبد الملك وينتظر تنفيذ حكم من هشام بقطع لسانه على قصائده الهاشميات، فدبر خطة هروب مع زوجته فلبس ثيابها وانسل من السجن ليلاً وجاء السجانون صباحاًَ لتنفيذ الحكم، فوجدوا زوجة الكميت في السجن بدلاً منه. وأخذها إلى خالد القسري فلم يزد هذا الإرهابي الخطر على أن قال: حرة فدت ابن عمها!
تعذيب أدبي:
كان يطبق على المخالفات التي لا ترقى إلى درجة الجنحة أو الجناية أو التي لا تمس أمن السلطة مصالحها، ومن وسائله حلق اللحى أو نتفها ـ والنتف يجمع بين التعذيب الجسدي والأدبي معاً ـ وحلق الرؤوس. وكانت هذه العقوبات تفرض أحياناً على الزعران والزنادقة، ومنها قص الشعر الطويل، وكان يطبق على المراهقين أو الفتيان اللاهين. وقد تباهى ابن الجوزي في «القصاص والمذكرون» حملة قادها في بغداد ضد هؤلاء فقصوا فيها «أكثر من عشرة آلاف طائلة ـ أي خصلة طويلة». ومن وسائل التعذيب بإركاب المشهر به على حمار والطواف به في المدينة ومعه أشخاص ينادون بجريمته ويورد الجاحظ في «مفاخرة الجواري والغلمان» تشهيراً بهذه الوسيلة لجارية ماجنة في بغداد قبض عليها وهي تجامع مخنثاً بكنديج (قضيب اصطناعي) ويؤخذ من رواية الجاحظ أنها اعتبرت هذه الوسيلة معادلة للقتل، لأنها كانت تخاطب الرجال عند الطواف بها و تقول متهمة إيهاهم بالظلم: إنكم (......) والدهر كله فلما (......) مرة واحدة قتلتموننا.. وابتكر عبيدا لله بن زياد وسيلة إضافية في التعذيب الأدبي بهذه الطريقة طبقها على الشاعر المتمرد يزيد بن مفرغ الحميري. أمر بأن يسقى مادة مسهلة ثم يطاف به. وكان الشاعر يسلح على نفسه أثناء الطواف.
خارطة التعذيب:
تفاقم التعذيب على يد الأمويين، متلازماً مع تحول دولة المدينة البسيطة إلى امبراطورية يحكمها خليفة مطلق السلطة، لكن ذلك لا يعني أن التعذيب لم يمارس من قبل. وقد أشرنا آنفاً إلى أوامر أبي بكر بحرق المرتدين ودفاعه عن أفعال من هذا القبيل صدرت عن خالد بن الوليد في حروب الردة. ويمكن اعتبار خلافة عثمان نقطة تحول أولية في القمع الإسلامي، فهو مؤسس جهاز الشرطة في الإسلام، وقد ذكر ابن حبيب في «الحبر» اسم مدير الشرطة الذي عينه وهو عبد الله بن منقذ التيمي ـ من قريش ـ ونوه بما يدل على بساطة جهازه، كمؤشر على سلطة قمعية في طور النشوء وانتهج ولاة عثمان نهجاً قمعياُ، محدوداً في دار الإسلام، منفلتاً في دار الحرب (جبهة الفتوحات)... ولم يرد عن عمر بن الخطاب شيء من ذلك؛ أما عليّ فهناك رواية تقول بأنه أحرق مرتدين. وقد أخرجها البلاذري في «أنساب الأشراف» على وجهين يرد في أحدهما أنه أحرقهم أحياء وفي الآخر أحرقهم بعد قتلهم بالسيف. وتربط بعض المصادر هذا الحدث بأتباع عبد الله بن سبأ الذي قيل إنهم ألهوا علياً فأحرقهم في روايات، ونفاهم في روايات أخرى. وتورد الروايات التي ذكرت الإحراق رجزاً قيل إن على أنشده عند أو بعد إحراقهم. وعبد الله بن سبأ مشكوك في تأريخيته، كما أن الغلو لم يكن قد ظهر في زمان عليّ. لكن رواية البلاذري عن حرق المرتدين ممكنة بالنظر لوجود مثل هذه الحالات في ذلك الوقت. ومن المستبعد مع ذلك أن يكون عليّ قد أحرقهم أحياء لما نعرفه عنه من تشدد في مراعاة أحكام الشريعة. والوجه الثاني لرواية البلاذري أحرى عندي بالقول. مع التنبيه إلى أن الرجز الذي نسب إلى علي في هذا الحادث ركيك لا يحتمل صدوره عنه وهو من عناصر الضعف في الرواية. ما لم يكن أضيف إليها فيما بعد.
يستثنى من خلفاء الأمويين عمر بن عبد العزيز، الذي حكم أقل من ثلاث سنوات، ويزيد الناقص الذي حكم ستة أشهر. أما الباقون فكانوا قمعيين بدرجات متفاوتة.وظهرت ملامح نزعة سادية لدى بعض الولاة والقواد مثل زياد بن أبيه وابنه عبيد الله ومسلم بن عقبة المري والحجاج وقرة بن شريك وبشر بن مروان ويزيد بن الملهب وخالد القسري وأخيه أسد. ويروى أن مر بن عبد العزيز استعرض بعض هؤلاء يومياً ـ قبل خلافته ـ فتحدث بما يشعر بالهول من اجتماع عدد منهم وفي وقت واحد. قال: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة.. اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس! واشتهر الحجاج من بين هؤلاء رغم أن فيهم من لا يقتصر عن شأوه. و تقول رواية شعبية إنه كان إذا أعدم أحداً يستمني على نفسه..ويكرس هذا الجنوح في الخيال حالة الاقتران السيكولوجي بين الجنس والعنف مما عسى أن يكون الحدس الشعبي قد لمسه من خلال نموذج سادي تصدر قصص الإرهاب في تاريخنا.
وينتظم الخلفاء العباسيون في نفس السلك. مع استثناءات من النزعة السادية يمكن أن تشمل المأمون والواثق. والخلفاء الذين رقعوا تحت طائلة البويهيين والسلاجقة ففقدوا سلطتهمالفعلية، وخلفاء الحقبة العباسية الأخيرة الذين عاشوا في ظروف خاصة واقتصرت سلطتهم في الغالب على بغداد وما حولها.. وعرف بالدموية من ولاته وقوادهم: أبو مسلم الخراساني وعبد الله بن علي ومعن بن زائدة ويزيد بن مزيد وعقبة بن مسلم ومن الوزراء الفضل بن مروان ومحمد بن عبد الملك الزيات وحامد بن العباس. وفي الأندلس، تميز المعتمد بن عباد بميله إلى التلذذ بمشهد الرؤوس التي كان يأمر بقطعها وقد مر بنا أنه كان يشتلها في حديقة داره. واشتهر بالقسوة معظم ملوك الطوائف من غير المعتمد، وكذا المرابطون والموحدون الذين اقترن تاريخهم بأعمال الإعدام الجماعية التي ذهب ضحاياها مئات الألوف من خصومهم. ومن الخلفاء الفاطميين عرف الحاكم بأمر الله بحالته المرضية التي تجمع بين أعراض التقلب والمزاج الدموي.. وعرف من القرامطة أبو طاهر القرمطي بالمذابح المجانية في مكة وغيرها من النواحي التي امتدت إليها غزواته ما لم نضع في الحسبان احتمال المبالغة في أخباره التي وردتنا في مصادر معادية للقرامطة.
جلادون من الخلفاء يندمون عند الموت:
بتأثير الحرمة المؤكدة للقتل الكيفي والتعذيب كان بعض الخلفاء يتنغصون عند الموت لخوفهم من دخول جهنم، فقال عبد الملك بن مروان ليتني كنت غسالاً. وبغت الفقيه أبو حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه. ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.. (ترجمة عبد الملك من الطبري وابن الأثير) وقال الواثق العباسي: «لوددت أني أقلت العثرة وأني حمال أحمل على رأسي». وطلب منه العهد لولده فقال: لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً. (اليعقوبي 2/83) وفي قوله هذا إشارة إلى حتمية اقتران القمع الدموي بالسلطة الفردية. وقال والده المعتصم عند الموت: لو كنت أعلم أن عمري هكذا قصير لم أفعل ما فعلت ـ الطبري في ترجمته. وانفرد الحجاج براحة ضمير مطلقة ترجع إلى ولائه الديني للأمويين.
موقف الفقهاء:
اشتملت مصادر الحديث على روايات في النهي عن المثلة، أي تعذيب الحي وتشويه الميت حدد الفقهاء على أساسها مواقفهم من التعذيب نعرضها فيما يلي:
ـ حديث عمران بن حصين، أخرجه أحمد بن حنبل في «المسند» والدرامي في «السنن» ونصه: «ما قام فينا رسول الله خطيباً إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة». أورداه من عدة طرق.
ـ حديث عبد الله الخطيمي، أخرجه أحمد ونصه: «نهى رسول الله عن النهبة المثلة».
ـ حديث المغيرة بن شعبة، أخرجه أحمد ونصه: «نهانا رسول الله عن المثلة».
ـ حديث سمرة بن جندب، أخرجه أحمد ورواه ابن هشام في السيرة ونصه مماثل لنص عمران بن حصين.
ـ حديث هشام بن حكيم بن حزام، أخرجه أبو داود في «السنن» ومسلم في الصحيح ونصه: «مر هشام بن حكيم على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا، ودخل على حاكم فلسطين فحدثه بالحديث فأمر بهم فخلوا».
ـ وصية إلى سراياه أوردها ابن هشام في السيرة وأخرجها الترمذي في «الصحيح» نصها: في السيرة: لا تغلوا ولا تمثلوا. في الصحيح: لا تغدروا ولا تمثلوا.
ـ حديث هبار بن الأسود، أخرجه الطبري في «ذيل المذيل» وأبو داود في «السنن»وابن عبد البر في «الاستيعاب» وأورده ابن هشام في «السيرة» والزبير بن بكار في «نسب قريش» بصيغ تتفاوت قليلاً خلاصتها أنه أوصى سرية، أو عدة سرايا، إذا ظفروا بهبار بن الأسود أن يحرقوه، ثم استأنف: لا يعذب بالنار إلا الله، وأمره بقطع يديه ورجليه بدلاً من ذلك.
وكان هبار من بلطجية قريش وللنبي ثأر شخصي معه لأنه طارد ابنته زينت عندما هاجرت من مكة لتلتحق بوالدها وضربها فسقطت من بعيرها، وكانت حاملاً فأجهضت ويختص هذا الحديث بالنهى عن الإعدام حرقاً «ظفر محمد بهبار في فتح مكة وعفا عنه».
ـ أحاديث وردت عن طريق الشيعة، فيها رواية لليعقوبي تؤكد النهي عن التعذيب لأي سبب كان، وحديث في نهج البلاغة بالنهي عن المثلة، وآخر عن أئمة أهل البيت في معاقبة مرتكبي التعذيب بالسجن المؤبد.
تتصل هذه الفئة من الأحاديث فئة أخرى حرمت ضرب العبيد وتعذيبهم، منها:
ـ حديث لليعقوبي: «لا أخبركم بشرار الناس؟ من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده». «الرفد: العطاء».
ـ حديث هلال بن عساف، أخرجه مسلم وابن عبد البر: كنا نبيع البر في دار سويد بن مقرن فخرجت جارية وقالت لرجل منا كلمة فلطمها، فغضب سويد وقال: لطمت وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة من إخواني مع رسول الله مالنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدنا فأمرنا رسول الله فأعتقناها «البر، بضم الباء، القمح».
ـ حديث أخرجه أبو داود في «السنن»: «من لطم مملوكه فكفارته أن يعتقه».
ـ حديث مقارب أخرجه الخطيب في تاريخ «بغداد»: «من ضرب عبده في غير حد حتى يسيل دمه فكفارته عتقه».
وهناك جملة أخرى من الأحاديث بشأن تعذيب الحيوان منها:
إن هذه الروايات تحظى بتوثيق علماء الجرح والتعديل منحي السند ولم يرد بشأنها ما يثير الشك في المصادر التي تناولت الأحاديث الموضوعة أو الشك في المصادر التي تناولت الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة كاللآلئ المصنوعة للسيوطي والوائد المجموعة للشوكاني. لكن توثيق السند، رغم أهميته، ليس حاسماً في تصويب الرواية، ونحن نضع في حسابنا:
1 ـ اتجاهات الفرق المعارضة وبعض المتنورين الذين وقفوا ضد الإرهاب وما يحتمل أن تثيره من الحاجة إلى مبادئ شرعية تسند وقفتهم، وفي تاريخ الحدث أمثلة كثيرة على ذلك.
2 ـ وقائع المثلة في السيرة، وهي تعارض منطوق الأحاديث المذكورة، وقد جرى المستشرقون على الاستفادة من هذا التعارض للتشكيك بالأحاديث، وثمة مع ذلك حجة مقابلة لدى الطرف الرسمي. السلطة المعذبة ـ إلى شرعنة سياساته يمكن أن تقف وراء رواية هذه الوقائع في السرية وتخضعها لنفس القدر من التشكيك، على أني لا أرى مسوغاً لتصميم أحادي يمكن أن تغري به الرغبة في تجاوز أي من هذه الروايات، التي نقلت إلينا في مصادر معتمدة لا يصح إخضاعها للتشكيك الاعتباطي، وتعارض التوجيه والممارسة لا يكفي هنا للترجيح بالنظر لاختلاف الدوافع والظروف التي تحكم كلاً منها، ولأن منحى الانفصام بين الفكر والسلوك، كمنحى سائد بدرجات متفاوتة في تاريخ الوعي البشري يمنع من المعايرة بينهما.
مهما يكن من شيء، فقد تقبل الفقهاء هذه الأحاديث واعتبروها نصاً قاطعاً في تحريم التعذيب، ولا شك أنهم نظروا إلى ما صدر عن النبي في هذا الشأن خصوصياته التي لا تندرج في عداد السنة، وبنيت على ذلك جملة من الأحكام الفقهية تناولت قضايا التحقيق والعقوبات وأمور الحرب سنلم بها في السطور الآتية:
وسائل الإعدام:
لم يتطلع الفقهاء المسلمون إلى يوم تلغى فيه عقوبة الإعدام، مفترضين الضرورة الأبدية للعقوبات ما دام الإنسان مزيجاً من الخير والشر، وإنما تداولوا حديثاً نبوياً يقول: «أعف الناس قتلة أهل الإيمان» أي أن المؤمن إذا اضطر إلى القتل نفذه بأقل الوسائل إيلاماً، وقد استنتج منه ابن تيمية أن القتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل. يقصد أسرع بحيث لا يتعذب المحكوم به، وينبني على هذا أن الإعدم يجب أن ينفذ بالسيف مادام الوسيلة الأقل إيلاماً، فإذا وجدت وسيلة أخرى حلت محله، وهو المستفاد من الحديث، ولم يلتفت الفقهاء إلى تعارض هذا الحكم مع حكمين بالقتل يقترنان بالتعذيب، أولهما حكم قطاع الطرق، المنصوص عليه في القرآن، بقطع اليدين والرجلين والصلب وهو يقتضي قتلهم بهذه الطريقة، إلا أن جمهور الفقهاء، جعلوا الصلب بعد القتل، وقد أوله ابن تيمية برفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم. لكن القتل بقطع الأطراف هو حد ذاته تعذيب، ولم يكن للفقهاء الذين حرموا التعذيب إلا الامتثال لهذا الحكم بسبب صدوره عن الوحي الإلهي.
الحكم الآخر هو رجم الزاني والزانية المحصنين. أي المتزوجين وهي ذات أصل سومري وكانت تفرض على المرأة المراهطة، وانتقلت إلى المسلمين عن ريق التوراة، ينص هذا الحكم على الرجم حتى الموت، وكانت عقوبة الزانية المحصنة حبسها في منزلها حتى الموت وفقاً لنص الآية «15» من سور «النساء»، ثم نسخت بالرجم، وقد أثار حكم الرجم التباسات ناشة عن شناعته من جهة وعدم النص عليه في القرآن من جهة أخرى، فأنكره فريق من المسلمين بينهم الخوارج وتساهل آخرون في تنفيذه، ويبدو أن القائلين به شعروا بالحاجة أمام الإنكار، إلى توكيد وروده في الكتاب والسنة فقالوا إن حكم الرجم منصوص عليه في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
ونص الآية كما ترد في مصادر التفسير والناسخ و المنسوخ منسوبة إلى عمر بن الخطاب: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم».
وقد نسخت تلاوة الآية برفعها من القرآن مع بقاء حكمها، ولا سبيل إلى البت في صحة هذه الرواية لأن أسلوب الآية المدعاة من الركاكة بحيث يصعب القول إنها صادرة عن القرآن، ويزداد الأمر التباساً حين يراد منا أن نقبل بأن آية باقية التلاوة «الآية 15 من سورة النساء» تنسخها آية منسوخة التلاوة «آية الرجم» مما لا جد له نظيراً في الناسخ والمنسوخ، على أن مصادر الحديث والسنة اشتملت على وقائع نفذ فها الحكم على يد النبي وبعض الأحاديث التي تصرح به، مما يعزز الاعتقاد بورود حكم شرعي منصوص عليه في الأصول، وعندئذ قد يكون من المعقول أن يقال أن الآية 15 من سورة النساء قد نسخت بالسنة، ويوافق معظم الأصوليين على أن السنة تنسخ القرآن، على أننا نعثر في «طبقات الصوفية» للسبكي أن الصحابي عبد الله بن أبي أوفى سئل إن كان النبي قد رجم فقال نعم، فسئل: بعدما نزلت سورة «النور» أم قبلها؟ فقال أدري «ص333» وتعزز هذه الرواية الشك في الرجم لأن سورة النور اقتصرت على عقوبة الجلد.
ونظراً لتحريم الاجتهاد في موضع النص، لم يكن ميسوراً إعلان رأي ما بشأن هاتين العقوبتين، ولعل الفقهاء قد وضعوهما على ملاك الاستثناء من حكم الحدث، وهو عام في سائر الأحكام التي قال الفقهاء بوجوب تنفيذها بضربة واحدة سريعة بالسيف.
ويبدو التمسك بهذا الحديث موجهاً ضد وسائل الإعدام التي شاعت بعد الراشدين وهي الإعدام بالتعذيب، وبناء على الاعتبارات نفسها حرم الفقهاء الإعدام بالنار، وقد استندوا إلى حديث هبار، ولم يجعلوا أفعال أبو بكر سابقة وإنما اعتذروا له باحتمال عدم سماعه بالحديث، كذلك لم يعتدوا بروايات حرق المرتدين على يد علي بن أبي طالب لأن الأحكام الشرعية لا تؤخذ عندهم من مصادر التاريخ العام، لا سيما أن هناك روايات تفيد أن كلاً من أبو بكر وعلي نهى عن المثلة.
التعذيب دون القتل:
حرمه الفقهاء بجميع أشكاله استناداً إلى النهي العام عن المثلة، وهو يشمل تعذيب الاعتراف العقوبة وتعذيب العبد وغير ذلك، وفيما يتعلق بالأوان قال أبو يوسف إن الاعتراف الناشئ عن رب المتهم وإيذائه لا يعتد به، وه ما قاله المحقق الحلي. من فقهاء الأمامية. في باب الحدود من «المختصر النافع» بأن السارق وإذا أقر بالسرقة تحت الضرب لا تقطع يده، وفرق بعض الفقهاء بين ضرب المتهم وتعذيبه بالوسائل الأخرى، فحرموا الأخيرة إطلاقاً وتسامحوا في الأول ـ الضرب ـ فقد أجاز ابن تيمية ضرب اللصوص لاستخراج الأقوال منهم. ووضع الماوردي قاعدة عامة بشأن الضرب تمنت جوازه مع قوة التهمة، أي أن تكون هناك دلائل ترجح صدور الفعل عن المتهم، على أن يكون ضرب تعزير لا ضرب حد، أي دون القدر الأدنى للعقوبات الشرعية وهو أربعون سوطاً، ووضع الماوردي للضرب هدفين: أن يضرب ليصدق عن حاله، وأن يضرب ليقر، والأول هو أن يقدم إجابات صحيحة عن أمور أخرى يحتاج المحقق إلى معرفتها في مجرى التحقيق، فإذا ضرب لهذا الغرض أخذت إفادته بالاعتبار، أما إذا ضرب لهذا الغرض أخذت إفادته بالاعتبار، أما إذا ضرب ليقر فإن إقراره لا يصح، لكن المارودي يفتر حالة ثالثة هي أن يضرب ليصدق عن حاله فيتجاوز ذلك إلى الإقرار ـ دون الإقرار أخذ به، وإذا أنكر جاز للمحقق أن يعمل بالإقرار الأول ولكن مع الكراهية، وهنا يتسامح المارودي فيعطي المحقق فرصة للاستفادة من الإقرار بالضرب على أن يكون الغرض من الضرب هو الإخبار عن أموره العامة وليس الإقرار بالتهمة، وهذا اجتهاد من الماوردي المعروف أنه شافعي المذهب، والشافعي لا يوافق على الضرب، وكذا أبو حنيفة ومالك وهو موقف الإمامية أيضاً كما أسلفنا عن المحقق الحلي، لكن المالكية أجازوه خلافاً لإمامهم وقالوا في إجازته إنه سيكون سبباً قي الازدجار حتى لا يكثر الإقدام على الجرائم.
التعذيب للعقوبة غير مسموح به خارج العقوبات المنصوص عليها، واعتبر الفقهاء ما صدر عن الحكام المسلمين بعد الراشدين مخالفاً للشرع، لا سيما في الجرائم السياسية والمخالفات التي تمس شخص الحاكم، وقد عنى الفقهاء بهذه المعضلة أكثر من غيرهم من فئات المثقفين المسلمين بحكم اختصاصهم كرجال قانون «وهم بهذه الصفة يتميزون عن كونهم رجال دين» وقاموا حينذاك بالدور الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان، ولو أنهم أخفقوا مثلها في صد هذه الموجة الجنونية التي لا تزال تعصف بالكثير من البلدان، وتحتوي مصادر الفقه والحديث على مادة وفيرة مضادة للتعذيب ربما تكون أكثر إشراقاً لو أن الفقهاء تجرأوا على إعادة النظر في بعض العقوبات الشرعية كالرجم والقطع لما فيها من عناصر المثلة، وقد مر بنا مع ذلك أنهم اختلفوا حول الرجم حيث أنكره بعض فقهاء الخوارج، ووضع آخرون لتنفيذه شروطاً تؤدي مراعاتها إلى تقليص مداه، فقد اشترطوا لثبوت الزنا أربعة شهود، وهو شرط أصلي في الشريعة ولكن معظم الفقهاء ذهب إلى إثقاله بشرط إضافي وهو أن يكون الشاهد قد رأى فعل الزنا عياناً، أي أن «يرى الميل في المكحلة» كما تعبر عنه عبارة تنسب إلى عمر بن الخطاب قصة زنا المغيرة بن شعبة، دون الوقوف على الهيئة الظاهرة للجماع، أي المضاجعة، ومن المؤكد أن هذا لن يتهيأ للمشاهد حتى في حدائق أوروبا العامة، ناهيك عن أن يكون في المجتمع الإسلامي والفقهاء على اتفاق في أن الرجل والمرأة إذا وجدا في لحاف واحد وكانا غير زوجين يعاقبان بالتعزير فقط.
إن عقوبة الرجم هي كما قلنا للزاني المحصن، أما العزّاب فيعاقبون بالجلد مائة سوط، وقد وضعت للجلد شروط تخفف من أضراره هي:
1 ـ أن يجلد بسوط خفيف بين الشدة واللين.
2 ـ ألا يجرد من ثيابه إلا ما كان منها ثخياً كالفرو.
3 ـ ألا يضرب في الحر الشديد والبرد الشديد وإنما عند اعتدال الهواء.
4 ـ تجنب المواضع المهلكة كالوجه والبطن.
5 ـ أن يضرب قاعداً مع عدم المد والغل والقيد.
6 ـ يجوز تقسيط الجلدات إلى خمسة أيام.
ومع هذه الشروط لا يبقى للجلد مفعول سوى دلالته الأدبية الماسة بكرامة الإنسان وهو ما أدى بالقوانين الحديثة إلى إلغائه في معظم المجتمعات، وللفقهاء تقييدات إضافية للعقوبات، فقد قال أبو حنيفة إن السكران لا يجلد إلا إذا بلغ في سكره حداً لا يفرق فيه بين السماء الأرض أو بين الرجل والمرأة. والمعروف عن أبو حنيفة أنه أباح النبيذ.. وقد استفاد الناس من هذه الرخصة، بينما أثارت هذه الفتوى زوبعة بين أتباعه فضلاً عن خصومه، وقال الفقهاء: إن السارق لا يقطع إلا إذا سرق من مال محرز، والمحرز أن يكون مقفلاً أو مدفوناً من مالكه، ولذا لا يقطع سارق البساتين والزروع، وكذا من سرق من حرز هتكه غيره، ولا يقطع سارق المواد التي يسرع إليها التلف كاللحم والفواكه وسارق المباح الكثير كالخشب، وحددوا معنى السرقة بأخذ المال على سبيل الخفية والاستتار فإن اختلس أو نشل لم يكن سارقاً ولا قطع عليه، ويشمل هذا الحكم النشالين أو الطرارين، ولا يستفاد من هذا إباحة السرقة في هذه الأمور فالمقصود هو عقوبة القطع فإذا لم تتوفر شروطها عوقب السارق بعقوبات أخف كالحبس أو التعزير.
وقال أبو حنيفة بعدم العقوبة على اللواط في رواية، وفي أخرى بالجلد ما دون الحد المقرر للزاني، ويروى عنه أن قال من استأجر امرأة ليزني بها لا يحد لأن العقد يصير شبهة، يقصد أن عقد الاستئجار هو كعقد الزواج، لأنه يتضمن ركنين هما المهر الذي يدفع للمرأة في شكل أجرة، والتراضي بينهما، وأخذ الأجرة دليل مادي على رضا المرأة، وفي المحلى لابن حزم أن أبا حنيفة لم ير الزنى إلا ما كان مطارفة، وأما ما كان فيه عطاء أو استئجار فليس زنا ولا حد فيه. وقد استند في هذا إلى خبر الجائعة التي أتت راعياً فسألته الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها فوافقت، ثم جاءت إلى عمر بن الخطاب، فأخبرته فقال: مهر، ودرأ عنها الحد. ولا يعنى هذا القول من أبو حنيفة إباحة البغاء، ويجب على أي حال أن يفهم في ضوء الاتجاه إلى تقليص حالات تطبيق العقوبة على الزنا، مع ما يحمله من التفريق بين زنا الرغبة وزنا الحاجة.
يقصد بالمطارفة ما كان عن مجرد رغبة عابثة، ورواية ابن حزم قرب إلى المعقول، وهي بحسب قصة الجائعة المنقولة عن عمر حكم خاص بالمرأة المزني بها دون الرجل، لأنها زنت اضطراراً ـ لا مطارفة ـ وهذا لا يرفع العقوبة عن الراعي الذي لا تذكر الرواية حكمه، إذا يبدو أنه كان مجهولاً لعمر، وإلا لكان من المفروض أن يقع عليه الحد، ورواية الجويني تفيد أن عدم العقوبة يشكل الرجل ويجب عدم الوثوق بها لأا كتابه مكرس للتشنيع بأبي حنيفة ليس لدراسة الأحكام الفقهية.
ويمكن أن نفهم من مجمل هذه الأقوال أن أبو حنيفة يريد رفع العقوبة عن المرأة التي تزني اضطراراً، وبالطبع فهذا يشمل البغايا لأن زناهن للحاجة وليس للرغبة، ولا بد أن العقوبة لا تسقط عن الرجل «الفاعل» لعدم توفر هذا القيد.ا
ويمكننا أن نرصد اتجاهاً عاماً بين الفقهاء في التشدد في جرائم القتل العمد وقطع الطريق واتساهل فيها عداها، وهناك قاعدة تقول: يخير الشهود «أي من شهدوا الجريمة» بين إقامة الحد عند الإمام وبين الستر على المشهود عليه واستتابته، بحسب المصلحة، فإن ترجح عندهم أنه يتوب ستروه وإن كان في ترك الحد عليه ضرر للناس كان الراجح رفعه إلى الأمام.
وتعطي هذه القاعدة دراً للجمهور في معالجة الجريمة دون رفعها إلى السلطة، ولم يحدد صنف الجرائم المشمولة بهذا الإجراء، لكن الإشارة إلى ما فيه «ضرر للناس» يمكن أن تنسحب على جرائم القتل والسرقة التي لا يجوز التستر على فاعلها ولا بد بالتالي أن يكون المقصود هنا هو الجرائم الشخصية التي يسميها القرآن «فواحش» وهي الزنى وشرب الخمر وما أشبه.
وللقاعدة المذكورة أصل في القرآن هو الآية 16 من سورة «النساء»: «واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما، إن الله كان تواباً رحيماً». والإشارة إلى الرجل المرأة، وقد ذكر الزمخشري في تفسير هذه الآية إن المراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الأمام، فإن تابا قبل الرفع إلى الأمام فأعرضوا عنهما و تتعرضوا لهما، وقد وردت روايات تتضمن هذا المعنى، ففي طبقات ابن سعد عن عبد الرحمن بن حرملة أنه جاء إلى سعيد بن المسيب يسأله: وجدت رجلاً سكراناً افتراه يسعني ألا أرفعه إلى السلطان، فقال له سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره، ويورد ابن سعد توجيهاً لعمر بن عبد العزيز بعدم التعرض لمرتكبي الفواحش وراء البيوت.
وأوردت مصادر الفقه والحديث قول النبي: «تدرأ، أو ادرأوا الحدود بالشبهات»، ويشتمل هذا الحديث على مبدأ قضائي مهم هو تفسير الشك لمصلحة المتهم، ويقول ابن حزم إن أشد الفقهاء قولاً بمضمونه واستعمالاً له هو أبو حنيفة وأصحابه، ثم مالك،ثم الشافعي.
وشدد الفقهاء على مسألة تعذيب العبيد، وقد استعرضنا بعض الأحاديث المتعلقة بذلك، وهناك اتفاق عام على تحريم الخصاء لأنه مثلة، ويعتبر العبد منعتقاً تلقائياً إذا خصاه مولاه، ولهذا السبب لم تزدهر تجارة الخصيان في العالم الإسلامي آنذاك رغم الحاجة إلى هذا الصنف من العبيد، ويقول أنجلز في «أصل العائلة» إن الأندلسيين كانوا يحصلون على حاجتهم من الخصيان من الامبراطورية الجرمانية المقدسة التي تخصصت في هذه التجارة، وينعتق العبد تلقائياً كذلك إذا عذبه مولاه على رأي الأمامية، وحرموا الضرب واللطم للعبيد ولكن دون أن يرتبوا عليهما الانعتاق ما لم يبلغا حد التنكيل. وهو المبالغة في الإيلام، كما خففت عقوبة الجلد الشرعية على العبد إلى نصف مقدارها على الحر في الجرائم التي تستتوجبها، ويروى عن علي بن أبي طالب أنه قال في تعليل هذا التخفيف: إن الله أكرم من أن يجمع عليه الرق والحد، واختلفوا على حكم السيد إذ قتل عبده، وقد أخرج النسائي حديثاً يقول: «من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه ومن خصاه خصيناه». والحديث مقبول عند عامة الفقهاء والمحدثين لكنهم تفاوتوا في التزامه نصياً: فسره بعضهم على سبيل الزجر والتغليظ في النهي فلم يعتبروه نصاً في العقوبة وقالوا بعقوبة القاتل بما دون القتل، واحتجوا عليه يخبر في سنن البيهقي يفيد أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقتله، وقال آخرون بقتل الحر إذا قتل عبد غيره ومن هؤلاء أبو حنيفة وسفيان الثوري، في وراية عنه، وابن أبي ليلى الشافعي وداود الظاهري، وقالت فئة ثالثة بقتل السيد إذا قتل عبده ومنهم البخاري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري في رواية أخرى عنه، وأهل السنة والأمامية على اتفاق بأن الحر لا يقتل بالعبد، سواء كان عبده أو عبد غيره، ويكرس رأي هاتين الطائفتين حالة التردي الأشمل في العصور البعد ـ إسلامية مما يتضح على الخصوص من مقارنته بآراء الفقهاء الذين ذكرنا أسماءهم للتو، وهم معدودون، حسب التصنيف الطائفي المعاصر، من أئمة أهل السنة.
وتسقط الحود بالتقادم، وهو للخمر بزوال ريحته من الفم عند العموم، وشهر عند الشيباني، وللزنا والقذف والسرقة مضى شهر عند الفقهاء الثلاثة والتقادم لا يشمل القتل العمد.
أحكام عامة:
1 ـ منع الخصاء للإنسان والحيوان، واعتبروه من واجبات المحتسب الذي يتولى تأديب الخاصي وملاحقته بالقصاص أو الدية في حال حدوث وفاة بسبب الخصاء، وقد طبق المنع الملموس فكان أمراء المسلمين وأغنياؤهم يحصلون بالشراء على الخصيان المجلوبين من خارج دار الإسلام.
2 ـ مراعاة حرمة المنازل بمنع دخولها بغير إذن أهلها، وسمح للمحتسب باقتحام المنزل عند الشك باحتمال وقوع جريمة كأن يصل إلى علم المحتسب أن رجلاً خلا بآخر ليقتله أو احتمال حصول زنا أو لواط، ولا يجوز الاقتحام في حال شرب الخمر لأنه من المخالفات الشخصية التي تعني صاحبها وحده، وفي السماح له بذلك في حال الزنا واللواط إشكال لأنها معدودة في المخالفات الشخصية ولم يوضح النص الفقهي ملابسات الحدث وما إذا كان الفعل على سبيل الاغتصاب.