الجمعة، 20 يوليو 2007

خرافة ذكر هامان على الآثار المصرية

تمهيد
سبق لي أن طرحت هذه الإشكالية القديمة المتعلقة بما نقله القرآن من العهد القديم عما يسمى ب "هامان" والذي جعله محمد (جهلا بالسياق التوراتي والتاريخ معا!!!) معاصرا ومقربا لفرعون الخروج المزعوم توراتيا وقرآنيا , وكان هذا الطرح مني على نحو موجز ضمن ما كتبت سابقا بالمنتدى تحت عنوان : " فرعون الخروج وخروج القصص التوراتي /القرآني من التاريخ ".

إلا أن ما قرأته (منذ وقت بعيد نسبيا) بالموقع المسمى "بن مريم" على شبكة المعلومات تحت عنوان " الرد على الأخطاء التاريخية المزعومة حول القرآن الكريم" من دفاع عن سقطة هامان القرآني والتي أشار إليها قديما تفسير الرازي لسورة "غافر" ذلك الرد الذي بدا لي تلفيقا مبرقشا جذابا ,إرتدى صاحبه ثوب المطلع على التاريخ المصري القديم فصاغ للقاريء ردا لم يزد الطين إلا بلة بما يستوجب التفنيد على نحو موضوعي قدر الإمكان ,ثم ما كان بعد هذا بوقت طويل حدث أن نبهني مشكورا الزميل المحترم " حيران" إلى أن الزعم ب " إكتشاف إسم هامان مدونا على الآثار المصرية" قد أصبح مأخوذا به من قبل البعض من أعضاء المنتدى بحسبانه حقيقة تاريخية يرددونه في مداخلاتهم على أنه كذلك !!!

كان ذلك كله هو ما دفعني في الواقع إلى أن أفرد لتلك المسألة موضوعا مستقلا , أتناولها فيه بشيء من التفصيل مع الرد على كاتب موقع " بن مريم" على نحو أنشد فيه الموضوعية قدر طاقتي ...


ولقد أشار الرازي قديما في معرض تفسيره للآية 36 من سورة غافر( يا هامان ابن لي صرحا..) لهذه السقطة القرآنية , بالجمع بين فرعون وهامان رغم أنهما لم يكونا في زمن واحد بقوله :

" ...قالت اليهود أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أن هامان ما كان موجودا البتة في زمان موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر فالقول بأن هامان كان موجودا في زمان فرعون خطأ في التاريخ . وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الإسم في زمانه . قالوا لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجودا في زمان فرعون ما كان شخصا خسيسا في حضرة فرعون بل كان كالوزير له ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية فلو كان موجودا لعرف حاله . وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجودا في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أنه غلط وقع في التواريخ . قالوا ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد ..فلو أن قائلا ادعى أن أبا حنيفة كان موجودا في زمان محمد..وزعم أن شخص آخر سوى الأول وهوأيضا يسمى بأبي حنيفة فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه ها هنا "( الرازي , ج7 ص277)

وها هو الرد الذي أورده الموقع المسمى " بن مريم" على شبكة المعلومات وتحت عنوان رئيس هو " الرد على الأخطاء التاريخية المزعومة حول القرآن الكريم" أقتبسه كما هو في معرض رده على هذا النقد القديم /الحديث للقرآن في مسألة فرعون وهامان( وإن كان قد خص الرازي بالذكر) ذلك الرد الذي أحسبه أصلا لما ردده الزملاء المحترمين في المنتدى بحسبانه حقيقة علمية راسخة ، يقول :


"- 3 - يقول إن هامان وزير فرعون (القصص 28: 6) و مع أنّ هامان كان في بابل، وجاء بعد فرعون بنحو ألف سنة (الرازي في تفسير غافر 40: 36 و37).
الجواب : هامان مذكور في القرآن في ستة أماكن مختلفة كأحد المقربين إلى فرعون بينما تذكر لنا التوراة أن هامان لم يُذكر في حياة موسى عليه السلام على الإطلاق وأن هامان كان وزيراً وخليلا لأحشوريش ملك الفرس الذي يدعوه اليونان زركيس , وكثيراً من الذين يريدون أن يطعنوا في القرآن و يدعون وجود أخطاء تاريخية فيه ومن بينها علاقة هامان بفرعون موسى , سخافة هذه الأدعاءات عرضت فقط بعد فك طلاسم الأبجدية الهيروغليفية المصرية قبل 200 سنة تقريباً وأسم هامان قد أكتشف في المخطوطات القديمة وقبل هذه الأكتشافات لم يكن شئ معروف عن التاريخ الفرعوني, ولغز الهيروغليفية تم حله سنة 1799 بأكتشاف حجر رشيد الذي يعود الى 196 قبل الميلاد وتعود أهمية هذا الحجر بأنه كتب بثلاث لغات : اللغة الهيروغليفية والديموقيطية واليونانية وبمساعدة اليونانية تم فك لغز الهيروغليفية من قبل شاملبيون وبعدها تم معرفة الكثير حول تاريخ الفراعنة وخلال ترجمة نقش من النقوش المصرية القديمة تم الكشف عن أسم ( هامان ) وهذا الأسم أشير إليه في لوح أثري في متحف هوف في فينا وفي مجموعة من النقوش كشفت لنا أن هامان كان في زمن تواجد موسى في مصر قد رُقي إلى أن أصبح مديراً لمشاريع الملك الأثرية وها هي النقوش تكشف لنا حقيقة هامان بعكس ماذكرته التوراة ورداً على الزعم الخاطئ لمعارضي القرآن هامان الذي تتحدث عنه الأثار المصرية التي أوردها كتاب : Pharaoh Triumphant the life and times of Ramesses II K.A. Kitchen ونسخته العربية ( رمسيس الثاني ،فرعون المجد والانتصار، ترجمة د.أحمد زهير أمين ) ص 55:
كان الشاب آمن ( = هامن / هامان ) ام اينت Amen em inet في مثل سن الأمير ( رمسيس 2 ) ورفيق صباه ،فلما أصبح رمسيس نائبا للملك ووريثا للعرش أصبح الفتى بالتبعية رفيقه وتابعه ففتح له الطريق لمستقبل زاهر وهي ما تحقق فعلا. وكان لآمن ام اينت Amen em inet ( هامان ) أقارب ذوو نفوذ منهم عمه [ لعله مِنموسى، Minmose ] كبير كهنة الإله مين والإلهة ايزيس بقفط ( شمال طيبة ) وقائد Commandant فيالق النوبة -أي الساعد الأيمن لنائب الملك في النوبة. ومنهم الفتى باكن خنسو [ والده باسر وزير الجنوب وابن عم آمن ام اينت Amen em inet ( هامان ) ص 242 ] مدرب الخيول الملكية الذي التحق بعد ذلك بالسلك الكهنوتي المستديم في خدمة آمون بطيبة [ أصبح كبير كهنة آمون، ص 242] . ص 73: رقّى الملك رفيق طفولته آمن ام اينت Amen em inet ( هامان ) إلى وظيفة قائد المركبات الملكية Royal Charioteer وناظر للخيل Super Intendent of Horse . وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} القصص ص 97: آمن ام اينت Amen em inet ( هامان ) رفيق الفرعون القديم قد رقى إلى منصب رسول الملك لكل البلاد الأجنبية ويقول الرجل بهذه المناسبة موضحا طبيعة عمله الجديد : أرفع له ( الفرعون ) تقارير عن أحوال البلاد الأجنبية كلها. ص 199: وكانت أرقى وظائف الدولة هي وظيفة السفير ( رسول الملك إلى كل البلاد الأجنبية ) وكانت الترقية إليها قاصرة على كبار ضباط سلاح العربات الحربية . ص 179: واختار الملك للمنصب ( كبير كهنة آمون ) الشاغر ون نفر Wennofer ( مات سنة 27 ) وهو والد رفيق طفولة رمسيس الثاني آمن ام اينت ( هامان ). وكان هامان نفسه قد نقل من وظيفته العسكرية إلى الرمسيوم ليصبح مديراً لمشاريع الملك الأثرية هناك Chief of Works of All Royal Monument - ولا يزيد البعد بينه وبين أبيه كبير الكهنة بالكرنك عن عبور النهر إلى الضفة الأخرى من النيل . فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى {38} القصص ذكر كتاب An Introduction to Ancient Egypt ، أن أقدم استعمال للطين الموقود بمصر كان معروفاً منذ الدولة الوسطى . ص 192: ويرجع الفضل في صعود نجم باسر paser ، وزير للجنوب بطيبة viceroy ،عم باسر كان قائد الفرق بالنوبة وبعده ابنه نخت مين ( ابن عم باسر ) واختياره نائبا للملك ( في النوبة ) إلى عراقة أسرته، فابن عمه آمن ام اينت ( هامان ) هو رفيق طفولة رمسيس الثاني . ص 199: وكان من علية القوم من اتخذ من الخدمة العسكرية ذريعة للوثوب إلى الوظائف المدنية العليا ،وقد تعرفنا من هؤلاء على ..، وآمن ام اينت ( هامان ) القائد بسلاح المركبات ثم ميليشيات المدجاي Chief of Medjay-Militia ، بعدها عين مديرا للمصانع ( وزير صناعة ) . ص 240: امنحتب .. لكنه كان ينتمي لأسرة ذات نفوذ هي أسرة آمن ام اينت ( هامان ) قائد ميليشيات المدجاى الشهيرة. ص 242: حيث يحتل مين مس آخر منصب كبير كهنة مين وآيزيس والذي يمت هو الآخر بصلة قرابة إلى آمن ام اينت . " ( إنتهى الإقتباس)


والملاحظ هنا أن كاتب ( بن مريم) يهيئ قارئه نفسيا وذهنيا لإبتلاع ما أعده له من دفاع تلفيقي هزيل , وذلك بأن يوحي كاتبنا لقارئه بعلمه ( الكاتب) بالمصريات عن طريق مقدمة مبسطة عن المرحلة المتأخرة لفك رموز اللغة المصرية القديمة وهو العلم الذي قد يفتقر إليه القاريء والذي سيمنح بمقتضاه كاتبه العالم ثقته ليقول ما يشاء فيما يتصل بهذا العلم .. وهو ما حدث فعلا فنجد كاتبنا قد بدأ مبكرا في الكذب معلنا عن غفلة كل علماء المصريات قديمهم وحديثهم ( عداه طبعا) حين قال :

"... وأسم هامان قد أكتشف في المخطوطات القديمة وقبل هذه الأكتشافات لم يكن شئ معروف عن التاريخ الفرعوني.." فاكتشاف إسم هامان في ( المخطوطات " جمع مخطوطة" !!!) قد جاء إذا تلقائيا وطبيعيا بمجرد فك رموز اللغة المصرية فالمخطوطات التي تذكر إسم هامان كثيرة !! ...ولم يقل لنا سيادته ولو عن إسم مخطوطة واحدة !!!!!!!
يكفيه فخرا وعلما أن حدثنا بالتفصيل عن حجر رشيد وخطوطه الثلاثة !
ويواصل الكاتب البناء التلفيقي على ما أسس عليه من حقيقة ( فك رموز حجر رشيد) ليتحفنا قائلا :

" وفي مجموعة من النقوش كشفت لنا أن هامان كان في زمن تواجد موسى في مصر ..."

معلومة جديدة أخرى يتحفنا بها الكاتب العالم بالمصريات.. جديدة على كل من له صلة بهذا العلم من علماء موضوعيين ومحايدين ألا وهي وجود شيء إسمه " زمن تواجد موسى في مصر ", ولست أدري إن كان سيادته على دراية أم لا بأنه وفي عصرنا الحديث ( الحديث جدا.. بعد عام 1799 بكثير!!) لم يعرف علم المصريات للآن أي ذكر موثق من الآثار يشير إلى هذا الموسى التوراتي / القرآني( أرجو الرجوع في ذلك لمقالي المشار إليه أعلاه للمزيد من التفصيل) , وهو ما جعله في مهب الريح محصورا في وجوده بين دفتي المقدس وحده .. لكن كاتبنا العالم يقدم لنا مفهومه عما أسماه بزمن تواجد موسى في مصر ويحدده بدقة وبدون برهان وكأنه ( من المعلوم من المصريات بالضرورة !!) حين يقول :

".. هامان الذي تتحدث عنه الأثار المصرية التي أوردها كتاب : Pharaoh Triumphant the life and times of Ramesses II K.A. Kitchen ونسخته العربية ( رمسيس الثاني ،فرعون المجد والانتصار، ترجمة د.أحمد زهير أمين ) .." فزمن رمسيس الثاني إذا هو "زمن تواجد موسى في مصر" ..

ولم يكلف كاتبنا نفسه أن يقول لنا لماذا إختار رمسيس الثاني بالذات , وترك المجال مفتوحا لأمثالي للتكهن والتنجيم وضرب الودع , فهو لم يقل لنا لماذا لا يكون زمن موسى هو زمن " أحمس الأول" أو " تحوتي مس الثالث" أو " إمن حتب الثاني" أو " إمن حتب الرابع" أو " حتشبسوت" أو " حر م حب" أو " مرن بتاح"( صاحب اللوحة المسماة بلوحة إسرائيل) ..الخ وكلهم من الفراعنة الذين زجت بأسمائهم بعض الآراء القديمة حول هذا الموضوع!! ..

يقول أ.د أحمد فخري ( عالم المصريات المصري الراحل ), وهو لم يزل بعد تحت جاذبية آراء قديمة تتعامل مع موسى التوراتي / القرآني كشخصية تاريخية :

"..يحسن بنا أن نشير إشارة عابرة إلى موضوع كثيرا ما نصادفه مقرونا بإسم هذا الفرعون ( يقصد مرن بتاح بن رمسيس الثاني ) وهو موضوع خروج بني إسرائيل من مصر . فمنذ العثور على إسم إسرائيل على لوحة انتصاراته اعتقد الكثيرون أن الخروج حدث في عهده . ولكن هذا الرأي لم يجد سندا من التاريخ وظلت الآثار المصرية على صمتها تجاه هذا الأمر .ولكن تحقيق هذا الموضوع من تاريخ العبرانيين واحتساب الزمن , ثم ما جاء من نتائج التنقيبات الأثرية في فلسطين جعل خروج بني إسرائيل في عهد مرنبتاح أمرا يكاد يكون مستحيلا , ويجب أن يكون في عهد الأسرة الثامنة عشرة .
ولهذا نجد كثيرا من أسماء الفراعنة تتردد في الأبحاث المختلفة فبعض الباحثين يرى أن فرعون الخروج كان تحوتمس الثالث وبعضهم يرى أنه كان إبنه أمنحوتب الثاني كما أن هناك من يقول إنه كان أمنحوتب الثالث ووصل الأمر ببعضهم إلى القول بأن خروجهم من مصر كان على أثر موت أخناتون , وأراد أن يربط بين خروجهم من مصر وثورة أخناتون الدينية . بل ظهر أخيرا رأي آخر وهو أن خروج بني إسرائيل من مصر لم يكن في عهد مرنبتاح وإنما كان قبله بنحو 400 سنة إذ كان في عهد الهكسوس . وكل ما نستطيع أن نؤكده أنه لم يظهر في الآثار المصرية أو الآثار الفلسطينية ما يحدد وقت الخروج تحديدا تاما وسيظل هذا الموضوع مفتوحا للمناقشة حتى ظهور أدلة جديدة .." ( أحمد فخري : مصر الفرعونية ص 359 –360 )

لدينا إذا عالم مصريات راحل جليل بثقل أحمد فخري كتب ما كتب في الفترة ما بين "1957-1960 " أي بعد عام 1799 بكثير يقر ب " صمت الآثار المصرية تجاه هذا الأمر"( وهو واقع ما زال حاضرا ,متحققا حتى الآن ) رغم تشعب الآراء حوله !! , وتراه لم يعلم بالكشوفات العرفانية التي أعلنها كاتبنا العالم بالمصريات والتي حددت ( مصريات كاتبنا) ما يسمى بزمن تواجد موسى في مصر في عصر رمسيس الثاني , وتحدثت عن مخطوطات ذكر عليها إسم " هامان" !!!
والظاهر لي من أمر كاتبنا العالم أن علمه ٌقد إقتصر( عمدا أو جهلا !!!) على أكثر هذه الآراء القديمة شيوعا وبريقا والتي جعلت من موسى المزعوم معاصرا لأحد أكثر فراعنة مصر شهرة وأبعدهم صيتا : " رمسيس الثاني" !! فأخذ به لخدمة غرضه دون تمحيص. فلقد نفت الأبحاث العلمية التي أجريت على مومياء" رمسيس الثاني" بالمتحف المصري في وقت سابق أن يكون قد مات غريقا بل مات تحت وطأة أمراض الشيخوخة بعد أن تخطى التسعين من عمره , ومن كان في مثل سنه لن تراه قادرا على المشي , وإن كان فبصعوبة وبطء شديدين.. فلقد : " ..أظهر فحص المومياء بالأشعة وجود إلتهاب المفاصل الفقارية القسطي spondylarthrite ankylosante ومن المؤكد أن هذا المرض قد جعل ..شيخوخة الفرعون غير مريحة . كما أن آثار تصلب الشرايين واضحة للعيان .." (المومياوات المصرية من الأسطورة إلى الأشعة السينية – الجزء الثاني- روجيه ليشتنبرج & فرانسواز دونان ) , وهو ما أضطره في أواخر أيامه على الأرجح إلى أن يمشي محني الظهر مستندا على عصا , بحسب ماذهب إليه مرممو موميائه في باريس في سبعينيات القرن العشرين ! ,فما بالك بركوب عجلة حربية وقيادة جيش كحال فرعون الخروج التوراتي المزعوم !!

ولنتابع بعد ذلك أحد أهم أركان الكشف الأثري العظيم لكاتبنا الفذ عن إسم " هامان" في مخطوطات مصرية تعود لزمن رمسيس الثاني ذلك الكشف التالي في عظمته ل والمترتب على فك رموز اللغة المصرية بعد الكشف عن حجر رشيد عام 1799 م !! ..فبعد أن وجد كاتبنا ضالته في " رمسيس الثاني" ( أشهر المتهمين في قضية الخروج المزعومة) , هم سيادته بالبحث عن شخص من عهده تنطبق عليه الأوصاف الهامانية المأثورة , مستعينا( صدفة أو قصدا ؟؟) بكتاب :" كنت أ كتشن: رمسيس الثاني , فرعون المجد والإنتصار" .. ولنتابع مع كاتبنا الفذ إقتباسه الأمين والأهم في بناء فريته عن المرجع المذكور(!!) : " كان الشاب آمن ( = هامن / هامان ) ام اينت Amen em inet في مثل سن الأمير ( رمسيس 2 ) ورفيق صباه .." وواقع الأمر أن كاتبنا المحترم قد دس إستنتاجه الشخصي فيما بين القوسين ( = هامن/هامان) في إقتباسه من مرجعه الرئيس الذي إعتمد عليه لكنت أ كتشن , ذلك المرجع الذي لم يتضمن هذين القوسين بما فيهما بعد إسم " إمن م إينت" !!!!
لكن كاتبنا المحترم أراد بدسه ذلك أن يوحي للقاريء بإستناد إدعائه على القرائن الأثرية ولو على حساب الدقة والأمانة العلمية !! حيث قطع فجأة إسم المدعو " إمن م إينت" بما دسه بين القوسين ليشطر الإسم إلى نصفين ! فالعلة الأساسية إذا بنظر كاتبنا في كون " إمن م إينت" هو هامان القرآني ( مع كونه من عصر رمسيس الثاني طبعا !!! ) أن اسمه يتضمن إسم الإله ( إمن / آمون ) ذلك الإسم المشابه لإسم هامان فقط في بعض الأحرف كالميم والنون والألف ( وياله من دليل تطابق !!!!) ثم تأتي بعد ذلك إضافة البهارات العلمية بالتركيز على بعض الألقاب التي حملها الرجل بحسبانها مطابقة لأوصاف هامان القرآني , مع الإيحاء للقاريء في كل مرة بكون الرجل وهامان شخصا واحدا بدس إسم هامان بين قوسين في كل مرة يذكر فيها إسم" إمن م إينت" مقتبسا عن كتاب " كنت أ كتشن" وكأن هذا الدس المتكرر جزءا لا يتجزأ من المرجع الأصلي !!!
والواقع أن هذا التلفيق المبني على البحث عن رجل من عصر فرعون شهير بين الفراعنة المشتبه فيهم كأبطال لقصة الخروج يدخل في إسمه إسم " إمن /آمون" ثم الزعم بأنه ( الرجل) وهامان المزعوم شخصا واحدا , قد أورد مثله وربما سبق كاتبنا إليه رجل آخر لا يقل عنه تقعرا وتبحرا وأمانة في العلم ألا وهو المدعو بال د. مصطفى محمود , في كتابه " الإسلام ما هو " حيث أورد سيادته رأيا يقول بأن أحد خلفاء الفرعون مرنبتاح حوالي ( 1224 – 1212 ق.م) ( والمتهم عند البعض بكونه فرعون الخروج المزعوم بوصفه صاحب ما يسمى بلوحة إسرائيل) على العرش ويدعى " إمن مس" , هو نفسه هامان القرآني وذلك رغم أنه لم يكن ذو شأن يعتد به في عصر مرنبتاح نفسه لا كوزير أو كقائد عسكري ورغم ذلك فلقد أصبح هامانا قرآنيا وثب للعرش بعد وفاة فرعونه الغريق !!

ولي أن أضرب أمثلة أخرى نسجا على المنوال نفسه , ربما فاقت مثلنا السابق تأثيرا !!! :
فلنا أن نعرف أن رجلا آخر ( أعتبره بمثابة توأما لهامان كاتبنا الألمعي) كان يعرف بالإسم نفسه ( إمن م إينت) عاش على الأرجح زمن الفرعون " حر م حب" حوالي ( 1334 – 1304 ق.م) ( أحد الفراعنة المشار إليهم في واقعة الخروج) , يقول عنه الأثري المصري الراحل سليم حسن في كتابه مصر القديمة , الجزء الرابع :

".. ومنذ عهد أخناتون كان معظم القواد , وكتاب المجندين , يحملون لقب " مدير كل الأعمال الملكية " , نذكر منهم ....... , وفي عهد " حورمحب" نذكر القائد " أمنمأنت.. " ( ص 502 )

وفي موضع آخر من نفس الكتاب يعدد لنا ألقابه المتنوعة قائلا :

" عثر لهذا القائد العظيم على عدة قطع من جدران قبره وتوجد الآن في عدة متاحف أوروربية كما توجد بعضها في المتحف المصري ..... ويظن أن قبره في منف في الجزء الشمالي ....وأنه كان يحمل لقب القائد الأعلى لرب الأرضين , وكذلك لقب المشرف على كل الموظفين في الوجه القبلي , والوجه البحري , واللقب الأخير كان يمتاز به " حور محب" قبل توليته الملك , وهاك ألقابه ومناقبه كما جاءت على القطع التي وصلتنا من قبره : الأمير الوراثي والرئيس الأول لمقاطعة منف / مدير عبيد الإلهة ماعت/ المشرف على الأعمال في معبد رع / المشرف على الوظائف كلها في الوجه القبلي والوجه البحري / مدير كل أعمال الفرعون / الممدوح كثيرا من الإله الطيب ( الملك) القائد الأعلى لجيوش رب الأرضين / صاحب الفرعون الأول / رئيس الرماة / مدير بيت الفرعون " تحوتي مس الثالث " ( أي معبده) ..."( ص 615)

ألا يصح لي إذا وبالمنطق العلمي الرصين نفسه لكاتبنا أن أقول أن قائدنا العظيم " أمن م أنت " صاحب الحظوة عند الفرعون " حر م حب" هو محض هامان القرآني مذكورا على الآثار المصرية , بعد أن انطبقت عليه الآية القائلة " وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} القصص بحسبانه حاملا لبعض الألقاب الطنانة من نوعية " صاحب الفرعون الأول"و " القائد الأعلى لرب الأرضين " و " القائد الأعلى لجيوش رب الأرضين" و " رئيس الرماة " !!!! وبعد أن صدقت فيه كذلك آية " فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى {38} القصص , بعد أن حمل ألقابا من عينة : " مدير كل أعمال الفرعون" !!!!!!

وألا يحق لنا كذلك أن نعتبر الوزير " إمن م أبت" ( حيث إمن = هامان)و من حيث كونه كذلك وزيرا للفرعون المشتبه فيه أيضا " إمن حتب الثاني" حوالي ( 1436 – 1411 ق.م ) والذي حمل ألقابا من عينة : " ...القاضي لقلب سيده , والمقرب إلى ملك الوجه القبلي في القصر , الثابت الخطوة , والدائم الحب.." ( سليم حسن – مصر القديمة – ج4 – ص 703 ) نعتبره هامننا القرآني أيضا مذكورا على الآثار المصرية !!
ولست أدري على أي أساس يمكن أن نقبل أحد هذه الآراء ونرفض الآخر طالما أن لدينا الكثير من "الهامانات" ( حاملو إسم آمون) من معاصري فراعنة كثيرون متهمون في قصة الخروج التوراتي/ القرآني بأدلة واهية تفتقد لسند أثري حقيقي !!!!! ...
ونأتي لوقفة بسيطة مع هامان كاتبنا الأصلي تتعلق بسيرته , فكاتبنا يزعم أنه قد :
" .. تم الكشف عن أسم ( هامان ) وهذا الأسم أشير إليه في لوح أثري في متحف هوف في فينا " .
لكن عالم المصريات سليم حسن يحدثنا في الجزء السادس من موسوعته " مصر القديمة ص 514" أن " إمن م إينت" المقصود والذي شغل وظيفة رئيس الشرطة , المعاصر لرمسيس الثاني والمنحدر من أسرة كهنوتية قوية عملت بكهانة الإله" أوزير" قد دون سيرته وأسماء بعض من أفراد أسرته على لوح محفوظ بمتحف " نابولي" بإيطاليا !!!, فلا أدري من أين أتى كاتبنا العالم الأمين بمتحف هوف هذا ؟؟؟؟؟؟؟ والطريف أيضا في هذه السيرة المطولة أن هامان المزعوم عند كاتبنا قد ذكر فيها ضمن سلسلة طويلة من أسماء أقربائه ووظائفهم , على لوحة نابولي رجلا ن كان يدعى كلا منهما أيضا ب " إمن م أنت" ويبدو من ألقابهما أنهما كانا على صلة ما بالفرعون آنذاك فالأول حمل وظيفة ( رئيس شرطة الصحراء , ومدير الأعمال لآثار جلالته المسمى " أمن م أنت" ) , والثاني حمل لقب ( سائق عربة جلالته" أمنمأنت " ..." ..المرجع السابق ص 515 فما أكثر الهامانات على الآثار المصرية الذين عاصروا رمسيس الثاني ( ناهيك عن غيره) , أولئك الذين ضن علينا كاتبنا المحترم بذكرهم جهلا أوعمدا !!!!!!!!!!!!!!

وأخلص مما سبق أن الزعم بوجود أي ذكر لما يسمى بهامان المقترن ذكره بفرعون القرآني على الآثار المصرية هو زعم جاهل , كاذب لا سند له إلا إذا لجأنا لأساليب كأساليب الحواة تستعين بمنطق تلفيقي جاهل مفاده أنه :
بما أن رمسيس الثاني ( أحد أشهر فراعنة مصر القديمة) هو فرعون الخروج بحسب ما هو شائع , فيكفينا أن نجد من زمنه رجل من رجال دولته يتشابه إسمه مع إسم هامان وليكن ذلك استسهالا بأن يتضمن إسم هذا الرجل لفظة آمون !!!!!!!!!!!!!! ..

وأجدني في هذا المقام مضطرا لإعادة مضمون ما سبق أن أشرت إليه سابقا باختصار شديد لمشكلة هامان القرآني ( عديم الصلة بالآثار المصرية) فيما كتبته بالمنتدى تحت عنوان " فرعون الخروج وخروج القصص التوراتي / القرآني من التاريخ " , ولكن بشيء من التفصيل هذه المرة... فهامان القرآني بنظري لم تتجاوز جذوره القصص الديني التوراتي ( ذلك الجزء المهم من المناخ الثقافي في شبه جزيرة العرب زمن محمد ) , كما أنه لا وجود لإسم هامان أو أي إسم شبيه به أو بآمون في قصة فرعون الخروج التوراتية وبالتالي أستبعد سماع محمد أو غيره من العرب آنذاك بهذا الإسم من الأساس .. والربط القرآني الخاطيء بين هامان وفرعون التوراتيين إنما قام في ظني على سمة مشتركة عامة بين الشخصيتين لا صلة لها البتة ب ( آمون) ألا وهي إضطهادهما لليهود وفقا للتوراة وما آل إليه مصيرهما من هلاك تبعا لذلك .. فهامان ( مثله مثل فرعون) كان بحسب سفر إستير ( الذي تدور أحداثه التوراتية المتخيلة في فضاء القرن الرابع ق.م تقريبا بفاصل زمني يقترب من 800 سنة بعد قصة فرعون الخروج التوراتي ,بحسب ما قد يفهم من التوراة!!) رجلا متغطرسا أراد أن يسجد الناس جميعهم له وحقد على اليهود حقدا شديدا( كفرعون أيضا) في أعقاب ما نالته " إستير" اليهودية من حظوة عند الملك الفارسي " أحشوروش" ( أرتاكسيريكس) بزواجها منه فصمم هامان والذي أصبح كبيرا لوزراء الملك الفارسي المذكور( هذا المنصب لهامان الذي توهمه القرآن زمن فرعون فكان ذلك سببا من أسباب الإقتران القرآني بين فرعون وهامان كما أظن) على إستئصال شأفة اليهود جميعا بعد أن تجاهله كذلك مردخاي ( والد إستير) ورفض السجود له( لاحظ شبه ذلك بغطرسة فرعون ) فاستصدر أمرا بقتل اليهود ( قوم إستير ومردخاي ) عن بكرة أبيهم في الثالث عشر من آذار ( مارس)( ويلاحظ هنا التشابه مع أمر فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل ) ..غير أن " إستير" نجحت في إحباط مؤامرة " هامان" ضد قومها عند الملك الفارسي الذي أمر بإعدام هامان فباء بخسران مبين لقاء إضطهاده لليهود ( كفرعون الخروج الغريق) .. وتخليدا لهذه المناسبة إحتفل اليهود بنجاتهم من القتل على يد هامان في 13 آذار(مارس) من كل عام وهو ما يسمى بعيد " البوريم" ( الفوريم) يصومون قبله 3 أيام شكرا لله ويفرحون بعده يومين يتبادلون خلالها الهدايا , ومن مظاهر هذا الإحتفال أنهم كانوا يصنعون تماثيل من ورق ترمز لهامان مضطهد اليهود تملأ بالملح يلعبون بها ثم تلقى في النار ... ولا يستبعد أبدا بل ومن المرجح جدا أن محمدا قد عرف عيد البوريم هذا عيد نجاة اليهود من بطش هامان أسوة بما عرفه و أخذه العرب فبل الإسلام ومحمد من بعدهم من اليهود احتفالهم و صيامهم لعاشوراء والمرتبط بقصة الخروج اليهودي من مصر هربا من إضطهاد فرعون .. ومن ذلك كله أستطيع أن أفهم لماذا إقترن فرعون بهامان في قرآن محمد , هذا الإقتران الخاطيء توراتيا الذي إستند إلى وجه عام للشبه بين الإثنين فرعون وهامان ألا وهو إضطهاد اليهود خلده اليهود في الحالتين دينيا بالصيام والإحتفال فكان ما كان عند محمد من خلط !!!!!!!

وإذا كان هامان التوراتي القرآني لا صلة له عندي إلا بأساطير التراث التوراتي التي إقتبس محمد منها الكثير لا بالتاريخ المصري الفرعوني كما بينت فإن محاولة كاتب موقع " بن مريم" الربط بين آية: " فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى {38} القصص " و بين معرفة المصريين زمن الفراعنة للبناء بالطين تبقى محاولة هزيلة بنظري , وكنت قد رددت عليها في مداخلة سابقة لي وجدت أن أقتبسها في هذا الموضع بشيء من التصرف , لصلتها الوثيقة بالرد على كاتبنا المتعالم , حيث : " أن طلب فرعون القرآني من وزيره هامان أن يوقد له على الطين صرحا يصعد به لإله موسى في السماء ليس إلا خرافة تاريخية عجيبة و إدعاءا غريبا على فرعون مصري!! فأمر صعود فرعون الحي إلى السماء بنظري لم يكن واردا أصلا عند المصري القديم ولم تعرف قصة تعود لزمن الفراعنة تتحدث بهذا الأمر الغريب ( وهنا موطن العجب في الزعم القرآني!!) وبالتالي فلن يكون واردا أن يصعد فرعون الحي أصلا إلى السماء على صرح من طين أو حتى سلم من خشب!! كما أن الأهرام(باعتبارها قبورا لبعض الفراعنة) لم تكن أبنية دنيوية يمكن إستخدامها لأي غرض دنيوي (صعود أوغيره) ناهيك طبعا عن غرابة السبب لهذه الرغبة في الصعود والمتمثل في رغبة فرعون القرآني من التأكد من وجود إله موسى وهو سبب ساذج بمقاييس تلك الأزمنة و زعم لاتاريخي فج عن تشكك فرعون في إله أجنبي مما يدفعه للصعود إليه؟!.
والأمثلة التاريخية المتعلقة بصراعات دينية للفراعنة( فرعون في مواجهة إله) محدودة للغاية كالفرعون الشهير "إخن إتن" الذي تعصب لإله الشمس "إتن" أو سلفه البعيد الملك "بري إب سن" من الأسرة الثانية الفرعونية الذي تعصب للإله"ست" تبدو بعيدة تماما عن تلك الأجواء العجيبة التي يرسمها القرآن لفرعونه المزعوم المتعصب لنفسه كإله.
وحين نتحدث عن فكرة صعود فرعون إلى السماء عند المصري القديم نجدها فقط تخص الفرعون الميت وترتبط بالمصير الأخروي الشمسي له حين يلتحق بالمركب السماوي للإله رع (إله الشمس) ليجوب معه السماء وهوما يرد في التعويذة رقم (606) من نصوص الأهرام " أنت تركب السفينة(سفينة الشمس) مثل رع , أنت تجلس على عرش رع لكي تستطيع أن تأمر الآلهة , لأنك أنت رع الذي ولدته نوت(إلهة السماء) والتي تلد رع كل يوم " ويرتبط بهذا المصير إيجاد طريقة يصعد بها الفرعون المتوفي إلى السماء وهو ما تتحدث عنه التعويذة 267 من متون الأهرام حين تقول"إن قلبك معك يا أوزير (والمقصود هنا بأوزير : المتوفى) ومعك قدماك يا أوزير ومعك ذراعاك يا أوزير وإن قلبه معه , ومعه قدماه , وذراعاه معه لقد أقيم له منحدر إلى السماء ليصعد إليه على السماء , إنه يصعد على دخان البخور العظيم ..إنه يطير كطائر , ويحط كجعل في مقعد خال في سفينة "رع" … "وهو ما جعل الباحث في الأهرام المصرية "أ.س.إدواردز" في كتابه "أهرام مصر" وفي سياق تفسيره للسبب الكامن وراء إختيار الشكل الهرمي كمقبرة ملكية لبعض الفراعنة جعله يذهب إلى الزعم بأن الهرم إنما كان وسيلة طمع الفراعنة من خلالها في الصعود إلى السماء بعد وفاتهم . ومن ناحية أخرى فإن المصري القديم قد إستخدم طرقا صاعدة من الطوب اللبن(الطين) لا ليصعد بها إلى السماء ولكن لرفع الأوزان والأحجار الثقيلة إلى الإرتفاعات الأعلى لبناء ما ولقد عثر على بقايا لأمثال هذه الطرق الصاعدة فيما يعرف بالهرم الناقص في سقارة (هرم الملك: سخم خت) وهرم الملك "إمن م حات الأول" وهرم "ميدوم"(ميدوم منطقة بمركز الواسطى التابع لمحافظة بني سويف المصرية) فضلا عن طريق آخر وجد ملاصقا للصرح الأول غير المكتمل بمعبد الكرنك. ومما تقدم فلا يعرف التاريخ المصري القديم فرعونا قد عادى إلها أجنبيا على النحو الخرافي الوارد بالقرآن و لا يعرف فرعونا قد حاول الصعود ليتأكد من وجود هذا الإله على صرح من طين !!.
وهنا يبقى السؤال الأهم حاضرا بغير جواب : " من أين أتى محمد بفكرة الصرح الطيني الذي يرتقيه البشر فيصلهم بإله السماء؟"..والجواب بنظري سيكون من خلال الأساطير التوراتية والتي كانت تمثل رافدا أساسيا من روافد الثقافة الدينية والتاريخية السائدة لمجتمع الجزيرة العربية أيام محمد (برجاء مراجعة مقالي الذي أوردت فيه أمثلة على ذلك و المنشور ببند الأديان في فهرس المنتدى تحت عنوان: " أساطير الأولين / المدخل الصحيح لفهم بعض القصص القرآني")

فلننصت إذا لذلك الجزء من الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين التوراتي حين يحدثنا عن أحوال نسل نوح بعيد الطوفان النوحي :

( وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة . وحدث في إرتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك . وقال بعضهم لبعض "هلم نصنع لبنا ونشويه شيا . فكان لهم اللبن مكان الحجر وكان لهم الحمر مكان الطين . وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة و برجا رأسه بالسماء !!!".ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض .فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما . وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل . والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه .هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض .فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض . فكفوا عن بنيان المدينة .لذلك دعي اسمها بابل . لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض . ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض……)

والنص التوراتي والذي يعود بزمن كتابته إلى فترة زمنية قريبة (معاصرة ل أو بعيد) السبي البابلي وفي سياق حديثه عن تلك المواجهات بين الرب ومخلوقاته المستلهمة لعناصرها الأسطورية من أساطير الرافدين القديمة (حيث كان الكاتب التوراتي كان قد إنتهى لتوه من سرد أحد فصول تلك المواجهة ألا وهو الطوفان النوحي المستمد من أسطورة الطوفان السومرية /البابلية ) نجد الرب التوراتي ما زال مستشعرا للقلق من مخلوقاته الذين تمكنوا من بناء برجهم الطيني الهائل البالغ عنان السماء فيتسبب ذلك في إقلاق راحته فقرر ذلك الرب القلق أن يفرق شملهم بتحويل لغتهم الواحدة إلى لغات متعددة(يبلبل ألسنتهم) كي لا يفهم بعضهم بعضا فلا يتحدون بعد ذلك ضده ويزعجوه..والكاتب التوراتي هنا يوظف المفردات المعرفية المحيطة به في بلاد الرافدين زمن السبي في نسج قصته فلقد رأى هذا الكاتب التوراتي ببلاد الرافدين القديمة تلك الأبراج اللولبية(حيث يطوق بدنها من الخارج سلما للصعود إلى أعلى كما جاء بوصف هيرودوت لما أسماه ب"زقورة بابل") المشيدة من الطوب والتي تقع داخل حرم معبد كل مدن بلاد الرافدين القديمة كبابل وآشور..الخ حيث يقع المعبد وملحقاته وقصر الملك ضمن منطقة مقدسة بوسط المدينة وقد عرف هذا المبنى بالزاقورة ( وهي على الأرجح الأصل المعماري للمئذنة الملوية لجامع سامراء في العراق ومن بعده مئذنة "جامع أحمد بن طولون" في مصر) وكانت لهذه الزاقورات أسماء كزقورة "سيبار" والتي كانت تسمى "بيت سلم السماء الساطعة" بما يبين القصد من وراء بناء هذه الأبراج كحلقة إتصال بين السماء والأرض..وهي في هذه الصلة المرجوة منها تشبه المسلة عند الفراعنة وتمثل إرهاصة لاحقة لأبراج الكنائس ومآذن المساجد..ومن ثم وظف الكاتب هذه المفردة المعمارية الدينية القريبة منه(زاقورة بابل) بحديثه عن برج من الطين المشوي يصل بين الأرض والسماء بما يخدم قصته التي جعل من بابل( ويعني إسمها الأصلي بوابة إيل/الله) مسرحا لها ليخدم قصته أيضا بوضع تفسير متعسف لإسمها يتماشى مع سياق المواجهة بين الرب ومخلوقاته . ولما كان محمد (إبن بيئته) المشبعة بالرافد الأسطوري التوراتي فلقد بدا له مناسبا حين يتحدث في قرآنه)عن مواجهة مزعومة بين فرعون وإله موسى أن يستحضر هذا البرج(الصرح كما أسماه) التوراتي/الرافدي باعتباره وسيلة إتصال معلومة ومقبولة لديه بين البشر في الأرض والرب في السماء بينما لم تكن للمسلة أو الهرم في مصر القديمة كوسائل لنفس الصلة ذكرا في التوراة يسمح بعلم محمد بهما حين يتحدث عن فرعون مصري (توراتي الأصل بالطبع) وحين يختلق محمد قصته تلك عن البرج الذي طلبه فرعون فإنه يستعين ببرج بابل التوراتي الأقرب لمخيلته فيصبح وفقا للقرآن المحمدي فرعون بانيا لزاقورة بابل على أرض مصر بمعرفة وزير من بلاد فارس !!

ختاما : أرى أنه من المخزي حقا أن يلجأ بعض من أتباع دين ما يحض على ترك الكذب أن يلجأ أولئك للكذب دفاعا عنه , وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تهافت مايدافعون عنه بما لا يؤهله للصمود في وجه معطيات العلم الحديث والمعاصر , بعد أن أصبحت أسس هذا الدين وأساطيره ضمن الحفريات التاريخية !!
الكاتب: الغريب المنسي
المصدر: شبكة اللادينيين العرب
هذه المواضيع لا تمثل بالضرورة رأي ناشرها - أثير العاني

يسمح بإعادة النشر بشرط ذكر الرابط المصدر أو إسم الكاتب